إن وصول كوندوليزا رايس إلى فلسطين المحتلة، موفدة من الرئيس الاميركي جورج بوش، إنما يعني جدية مقاربة الادارة الحالية للمسألة الفلسطينية. فالموفدة تعتبر من مسئولي الصف الأول في هذه الادارة. حتى يمكننا القول، إنها الاقرب إلى أذن الرئيس بوش.
لماذا هذه الجدية الاميركية تجاه القضية الفلسطينية حاليا؟
إذا اردنا الرد على هذا السؤال، وجب علينا اجراء مسح سريع للواقع في المنطقة، فماذا عنه؟
- أدى الوضع العراقي إلى تقسيم العالم ما بين مؤيد، ومعارض، فالقوى الكبرى باستثناء بريطانيا كانت معارضة للسياسة الاميركية.
- أدى هذا الانقسام، إلى المنطقة العربية أيضا بين مؤيد ومعارض.
- في الوقت نفسه، اتى أبومازن رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية. أعتبر هذا التغيير انتصارا لكل من أميركا و«إسرائيل» وذلك بعد ان حيد الرئيس ابوعمار.
- انتصرت اميركا على الرئيس صدام بسرعة هائلة، واحتلت قلب العالم العربي.
- في الوقت نفسه، تقود اميركا سياسة عدائية تجاه كل من سورية وايران. وتعرض في الوقت نفسه مبادرة احياء خريطة الطريق، وبتفرد ايضا.
- عرضت اميركا على العرب، إقامة منطقة للتجارة الحرة، هدفها إعادة تركيب الشرق الأوسط بطريقة جديدة.
- تعيد اميركا ترتيب انتشار قواتها في الشرق الأوسط، انطلاقا من المتغيرات الجديدة. فالصورة اصبحت تقريبا واضحة، فيما خص الاصدقاء والاعداء بين دول المنطقة.
- وفي الوقت الذي تستمر الانتفاضة الفلسطينية، ضد شارون. وفي الوقت الذي تستمر «اسرائيل» في قتل الابرياء، نرى ان اميركا متورطة حاليا، في حرب عصابات، حتى ولو رفض الوزير رامسفيلد الاعتراف بها رسميا.
- لاتزال اميركا، وبريطانيا تعانيان من مشكلة عدم العثور على اسلحة الدمار الشامل.
- وأخيرا وليس آخرا، راحت القاعدة تطل برأسها من جديد، وذلك من خلال عمليات متقطعة من هنا وهناك. ويبدو أن هذه العمليات، تأخد من دون شك من صدقية وقدرة اميركا، وصورتها في العالم.
في ظل هذه المتغيرات الجذرية، لا يمكن لنا وضع الاهتمام الاميركي المستجد بالقضية الفلسطينية، الا من خلال فهم استراتيجية أميركا الكبرى في العالم عموما وفي المنطقة خصوصا. عالميا، تريد أميركا تثبيت الهيمنة لكن بالمفرق وبالتفصيل.
أين هي مسارح الحرب الاميركية؟
- يتمثل المسرح الاول في الارض الاميركية. فالادارة، وبعد ان خلقت المؤسسات لخوض حربها ضد الارهاب في الداخل، نراها حاليا تقود عمليات قبض على عناصر نائمة، Sleepers كانت من الممكن ان تقوم بعمليات ارهابية في المستقبل. وقد يدل هذا السلوك، على ان اميركا قد اصبح لديها معلومات كافية عن الشبكات الارهابية.
- المسرح الثاني، يتمثل بافغانستان ومحيطها. لاتزال اميركا تعاني من مشكلات في هذا المسرح. فبن لادن لايزال مجهول المصير. وقرضاي لايزال ضعيفا، تحميه القوات الاميركية، حتى انه يمكننا اعتبار افغانستان كبلد ساقط حتى الآن Failed State. لكن المعضلة الكبرى لاميركا في هذا المسرح، تتمثل بعد امكان باكستان على ضبط حدودها لمنع عناصر الطالبان والقاعدة من تأمين الملاذ الآمن لها. وتبدو زيارة الرئيس مشرف لاميركا منذ فترة مهمة، لما يمكن ان تساهم هذه الزيارة في إعادة احياء الحرب على الارهاب.
- أما المسرح الثالث، فهو يتمثل في المسرح العراقي. وهو يعتبر مركز ثقل الاستراتيجية الاميركية في المنطقة. منه تسيطر على الثروات النفطية. ومنه تخوض حربها على الارهاب.
ما علاقة القضية الفلسطينية بهذه المسارح؟
- ترتبط القضية الفلسطينية بالمسارح الثلاثة. في المسرح الاول المذكور أعلاه. لا يمكن لنا إهمال الجالية العربية - الاسلامية في اميركا، حتى ولو كان تأثيرها غير فعال حتى الآن. في المسرح الثاني، ترتبط القضية الفلسطينية بالشق المتعلق بالحرب على القاعدة. فبين العمليات التي جرت في 11 سبتمبر/ ايلول، والعمليات التي تجري ضد الاسرائيليين. لا ترى اميركا أي فرق، أي، كلها ارهابية في المفهوم والتصنيف الاميركيين. أما المسرح الثالث، فهو الاقرب والاهم لكل من اميركا، واصدقائها العرب، كما الاعداء. فأميركا تريد حماية انتصارها في العراق. وترى من الضرورة توسيع البقعة الآمنة حول العراق. وتمتد هذه البقعة حتى فلسطين. فهي وعدت الاصدقاء العرب بمبادرة في هذا المجال، وهي تفي بوعدها. وهي تعتبر ان الاستقرار في المنطقة، أو بالاحرى استقرار الانظمة الموالية يتعلقان بمدى تقدم الحل على المسار الفلسطيني. وتريد اميركا عدم تطمين الاعداء لوجودها الفعلي في المنطقة، من هنا عزمها على نزع هذه الاسباب من يد هؤلاء الاعداء. كذلك الامر، لا يمكن لنا تجاهل البعد المتعلق بترتيب وتطمين «اسرائيل» فيما خصّ امنها. فبعد أن ابعدت الهاجس العراقي، وهي تطوق الهاجس الايراني، لا يبقى العمل حاليا إلا على البعد الداخلي الاسرائيلي، وهنا تدخل المبادرة الاميركية. فحسب الكاتب الاميركي ما يكل لند في كتابه «صنع في تكساس»، ترتكز الاستراتيجية الاميركية للادارة الحالية على الثالوث الآتي: التفرد في قيادة العالم. الاعتماد على الضربات الاستباقية، واخيرا تطابق السياسة الاميركية مع سياسة «اسرائيل»، خصوصا سياسة شارون.
ما الجديد على الساحة الفلسطينية؟
- يتمثل الامر الاول في إعلان وقف النار من قبل المنظمات الفلسطينية لمدة ثلاثة اشهر. قد يعني هذا الامر ان هذه المنظمات أصبحت لاعبا معترفا به على الساحة الفلسطينية. وهذا الاعتراف سيكون له ثمن سياسي لاحقا. لكن الاهم يتعلق بما صرّح به المسئول المهم المهم في حركة حماس أبو شنب عندما قال: «ما الفائدة من الكلام، يجب أن نكون صريحين. لا يمكن لنا ان ندمر «اسرائيل». والحل العلمي، هو ان يكون لنا دولة إلى جانب دولة «اسرائيل» وإن دولة فلسطين المستقبلية، هي ليست التي ستأخذ مكان دولة «اسرائيل».
الجديد ايضا هو المبادرة التي وحتى الآن، استبعدت الرئيس ياسر عرفات. فهل هو قادر على تعطيلها؟ وهل سيكون له دور مستقبلي؟ لا شيء ايجابي له حتى الآن. فهو كما يبدو حتى الآن، عاجز عن تعطيلها، وغير مقبول، أو مسموح له ان يكون لاعبا فيها.
أين الحائط في هذه التركيبة والمبادرة؟
- يقول الكاتب الاميركي زارتمان، إن التفاوض يقوم على الامرين المهمين الآتيين:
خلق المعادلة الكبرى للتفاوض Formula
ومن ثم العمل على خلق التفاصيل Details المقبولة من الفرق، وترتيبها كي تصب في خانة المعادلة الكبرى.
إذا هناك فارق بين المعادلة الكبرى والتفاصيل. فعند الاتفاق على المعادلة الكبرى، تصبح التفاصيل حتى ولو كان الشيطان فيها، مقبولة وعادة لا تفشل المشروع الأكبر (إي المعادلة) هل يصحّ هذا الوضع على المسألة الفلسطينية؟
استنادا إلى التجارب السابقة في المعضلة الفلسطينية، يمكننا القول ان الحائط كان ملازما لها بشكل مستمر. فهي وقبل ان تقلع، أي المبادرات، نراها تصطدم مباشرة بالحائط لتسقط، وتسقط معها آلاف القتلى خصوصا في صف الابرياء. لكن لماذا؟
في المعضلة الفلسطينية، تختلط المعادلة الكبرى، بالتفاصيل. حتى يمكننا القول، ان التفاصيل فيها، هي نفسها المعادلة. فنرى بعدا واحدا خلال كل المفاوضات، ومن هنا كان الفشل دائما ملازما لها. ونسأل هنا على سبيل المثال، وإذا ما اعتبرنا ان المعادلة الكبرى تقوم على إيجاد الحل، من خلال دولتين متجاورتين ومسالمتين. وإذا ما سلمنا جدلا ان التفاصيل تتمثل في الامور الآتية: القدس، اللاجئين وحدود الدولة. فهل يمكن لنا ان نفرق هنا بين المعادلة والتفاصيل، في الوقت الذي تبدو فيه التفاصيل وكانها جوهر المعادلة؟ طبعا كلا، وهنا صعوبة الوضع.
أين يكمن الفرق بين الفلسطينيين، والاسرائيليين.
- يكمن الفرق الجوهري في متخذي القرار في الجانبين. فماذا عنهما؟
في الشق الاسرائيلي: ينقسم متخذو القرار، أو المؤثرون فيه، في الشق الاسرائيلي إلى ثلاثة اقسام: 1- المتشددون المتدينون وهم الذين لا يؤمنون حتى في الدولة العلمانية. لكنهم لا يؤثرون حاليا في موضوع التفاوض. 2- هناك الحمائم كما يقال عنهم، وهم في المطلق مع الحل، مع اخذ التدابير اللازمة لموضوع الأمن الاسرائيلي. 3- وأخيرا، هناك الصقور، وعلى رأسهم حاليا شارون. هذه الفئة حاليا في الحكم، وهي قادرة على اتخاذ القرار والسير فيه، حتى ولو مع بعض التنازلات الكبرى. وبالفعل، فقد اخذت الفئة نفسها قرارات صعبة (من المنظور الاسرائيلي)، بعد كامب ديفيد الاولى.
في الشق الفلسطيني: لا يتوافر في الشق الفلسطيني، سوى بعدين على مستوى متخذي القرار، المتشددين، والمعتدلين. فما يقبل به المعتدل، لا يرضي المتشدد. والمتشدد، غير قادر على التفرد باتخاذ القرار، لكنه قادر على تعطيل إية مبادرة. وما بين المستويين، لا تتوافر طبقة قادرة على اتخاذ القرار. لكن المشكلة في الشق الفلسطيني، تكمن في ان اي تنازل، أو تراجع، يعتبر حيويا، وقد يؤثر سلبا على المستقبل. هذا عدا، عن ان الفلسطيني، يعتبر ان التنازل هذا، سيضاف إلى ما خسره سابقا. فهو قد خسر الأرض، والهوية، ونسيه التاريخ لمدة نصف قرن حتى الآن.
في الختام، يجب ان نتساءل عن قدوم رايس إلى المنطقة. فهل تم التحضير المسبق لهذه الزيارة لتأمين نجاحها مسبقا؟ وهل قامت مصر بالعمل السري لتسهيل الطريق؟
وإذا كان العكس، فهل تأتي رايس، ويخاطر بوش بالفشل على مشارف انتخابات؟ أو هل ان بوش يريد نفض يديه من المسألة، ليقول «لقد حاولت وجربت»، وسبب الفشل يقع على الفلسطينيين، ليطلق يد شارون لاحقا؟ هل لزيارة جورج تينيت إلى سورية علاقة بما يجري في فلسطين؟ هل تصريحات المسئولين في حماس، تعتبر مؤشرا لتحولات كبرى في استراتيجية حماس، بعد ان كان التشدد ضد «اسرائيل» يعتبر وسيلة للوصول إلى الزعامة والقيادة؟ أسئلة معقدة وجوابها في عهدة المستقبل. لكنها - بالتأكيد - مؤشر مهم لما يجري حاليا. فهل سينتصب الحائط مجددا ليقع الفشل؟ أم ان شارون كان قد قرر بناء حائط الفصل الخاص به؟
العدد 306 - الثلثاء 08 يوليو 2003م الموافق 08 جمادى الأولى 1424هـ