تطورت المجتمعات الإنسانية من مرحلة الإنسان القديم إلى إنسان الزراعة ثم إنسان الصناعة ثم إنسان المعلومات. وكانت لكل مرحلة من هذه المراحل أدواتها الخاصة بها وطرق العمل والتفكير وانعكاس ذلك كله على فعالية المجتمع آنذاك.
فقد بدأت مرحلة الزراعة قبل حوالي عشرة آلاف سنة وكان الإنسان يستخدم فيها ذراعيه وقدميه كأدوات للإنتاج، وكان نمطه في التفكير هو التقليد، وأساس قوته هي الأرض واقتصاده يقوم على المقايضة والنقود المعدنية.
ثم جاءت المرحلة الصناعية قبل حوالي قرنين فاستخدم فيها الإنسان الماكنة لتجاوز ما كان مشروطا بطاقته العضلية والجسدية ومستعملا العلم والتكنولوجيا (الطريقة العقلانية) نمطا في التفكير، وأصبح رأس المال مركز سلطته واقتصاده يقوم على الانتاج والاستهلاك والنقود الورقية.
ثم دخل الإنسان قبل عقدين ونيف في عصر الاتصالات والمعرفة الآنية والمتمثلة في المعلومات كسمة للقوة الجديدة، مستخدما العقل والأعصاب أدوات للعمل، معتمدا الاقتصاد الحديث القائم على التعامل الالكتروني والتقنية الرقمية ومصارف الانترنت.
وفي كل مرحلة من هذه المراحل كان الإنسان يتأقلم مع جوها وإفرازاتها وهويتها الحضارية. وقد بدأ هذا بشكل واضح إبان الثورة الصناعية، حيث كانت هناك اعتراضات من البداية على ادخال الماكنة وما يلازمها من التطور الحاصل على المجتمع جراء التطبيقات الميكانيكية على حياة الكثير من البشر. وأدى التغيير الكبير في نوعية العمل وتنظيم المصانع وطريقة العيش والبنية الاجتماعية إلى قبول عصر الماكنة.
وسرعان ما حققت الماكنة مستوى أعلى من الثراء للناس وتراكم المال وهيمنة النظام الرأسمالي في العالم. ونحن اليوم في خضم ثورة صناعية ثانية (أو ثالثة كما يحلو للبعض تسميتها) وهي «ثورة الدماغ» حيث يواجه الإنسان مرة أخرى تغييرا درامياَ في نمط العمل والعيش. وما التقدم الذي أحرزته التكنولوجيا العالمية إلا بداية صغيرة، كما يتوقع الخبراء، لعصر الانفجار التكنولوجي في العقود القليلة المقبلة. وهناك طاقة كامنة تحت السطح، وهائلة، لإدراك أبعاد الذهن وإمكاناته، وهذه ميزة الثورة الصناعية الثانية، أي التغلب على حدود طاقة البشر في التفكير (الدماغ)، ولذلك تسمى أحيانا «الثورة الذهنية».
لقد ولدت التكنولوجيا كمفهوم أثناء الثورة الصناعية، وبرزت أهمية الماكنة في التنمية والمنافسة الاقتصادية. واستطاعت التكنولوجيا في تلك الحقبة التجاوب مع الاحتياجات الثقافية والحضارية الضرورية لحركة الاقتصاد. ولهذا يمكن القول إن التكنولوجيا كانت تنظيما للتجارب الإنسانية وإعادة لترتيب أفكار الإنسان (تراكم خبرات). وغيرت التكنولوجيا المتقدمة طبيعة التنافس والتنمية الاقتصادية، وبدأ دور التكنولوجيا التقليدية بوصفها مصدرا أساسيا للحركة والتنافس يتضاءل، بل يختفي تدريجيا. هذا هو الذي حدث لمصانع الحديد والصلب وقطاعات التصنيع التقليدي في كل مكان، والذي نلمسه الآن هو الدخول المتزايد للشركات في قطاع اقتصاد الأرقام والمعلومات.
وقدرة أي شركة على اتقان التكنولوجيا لم تعد مهمة كما كان الحال في الماضي، وإنما التكنولوجيا الحديثة تحرك أو تنقل المنطق الاقتصادي الجديد في مجتمع المعلومات إلى الخطوة المقبلة وهي دور الإنسان نفسه (العاملين). إن العاملين أو المستخدمين الذين يعملون في اقتصاد الأرقام يجب أن يتمتعوا بمهارات وقدرات جيدة وأن يملكوا تقييما جيدا لأهمية التدريب والتعليم، والمرونة، ومن ثم تجاوبهم مع متطلبات البيئة التي يعملون فيها. فقد كان العاملون والموظفون في عصر الماكنة عوامل مساعدة، بينما احتلت الأشياء مكانة مركزية. أما اليوم، وفي أجواء اقتصاد الأرقام وحقبة المعلومات، فإن الأشياء أصبحت هي العوامل المساعدة، والمعرفة والموارد المعرفية للعاملين والموظفين هي المفاصل المركزية والأساسية. وهذا أمر ليس له حدود في اقتصاد المعرفة والأرقام. والمستخدمون النافعون هم أولئك الذين يمتلكون خيارات كثيرة في التوظـيف ولهم مواهب متعددة. كما يدعو الاقتصاد الحديث الإنسان لا إلى تسلم الأفكار فقط وإنما لإنتاج الأفكار، وقلما نرى اليوم المرتبطين بشبكة الانترنت يقفون وقفة المتفرج أو المشاهد، بل إن دورهم هو المشاركة والمبادرة والحركة.
ويقول غاري هامل، البروفيسور الزائر، في موضوع الإدارة في مدرسة لندن للأعمال: «في عالم لامتناه للمعلومات والمعرفة، فإن الماضي لا يعني المرتكز الأساسي، فالصناعة ليست المصير، والحدود لا تعني المحادة، والوظيفة لا تعني العبودية، والوفاء لا يمثل الإذعان. خبرتنا لأسئلتنا تأتي من فهمنا وتصورنا لعصر الماكنة. المستقبل وأسئلته الكثيرة تقع في عصر المعلومات والأرقام».
وكما هي الحال في عصر الماكنة، فإن التقنية تعني سعة التغير، ولهذا فإن هناك اعتراضا على التغير الكبير، وهناك تخوفا من مستقبل غير معلوم من الآثار البالغة للثورة الذهنية على المجتمع الإنساني. هذا التردد أو التخوف في بعض جوانبه مشابه لذلك التخوف الذي حصل في بداية الثورة الصناعية ونتج عن عدم استطاعة الناس مجاراة التغيرات المرافقة للتكنولوجيا الجديدة، والتخوف من أن تصبح التكنولوجيا غاية لا وسيلة، أو بمعنى آخر الخوف من فقدان السيطرة على الواقع كما كانوا يرونه. إلا أن التكنولوجيا المتطورة تحمل خصوصية واختلافا على الصعيد النوعي عن تكنولوجيا الماكنة، حيث ان التطور الذي تم بشكل سريع للغاية يجعل من الصعب التنبؤ بالمستقبل ذي الأشكال المتعددة أو تحديد مسار هذا التطور، والأهم من ذلك هو صعوبة تأقلم حياة الإنسان وطبيعته الاجتماعية والنفسية مع هذا التغير السريع، والمتوقع أن يكون بمعدلات متزايدة في المستقبل، مما يثير أسئلة عن هذا السباق مع الزمن. فإلى أين يتجه الإنسان مع هذه السرعة؟
بحسب رأي واحد من العلماء الباحثين البارزين في شركة «الاتصالات البريطانية» (British Telecom) فإنه «تم احراز تطور لا مثيل له في الرقائق الكمبيوترية في الأعوام العشرة الماضية فقط» كما ذكرنا. ويعتقد ان قوة عمل وسعة خزن المعلومات في الكمبيوتر ستتضاعف كل 18 شهرا (قانون مور) مفرزة تطورات مدهشة عبر دماغ الكمبيوتر العملاق (Super Computer) المستخدم في علم الجينات والطب والنقل وغيرها.
وأحدثت هذه التغيرات الأساسية، كما يعتقد علماء الاجتماع، صدمة كبيرة في المجتمع الإنساني وتركيبته المعروفة نتيجة عمق معدل التغير لطبيعة تكنولوجيا المعلومات الشاملة وتداخلها المتعدد الأبعاد في تفاصيل المجتمع، مما أفرز تغيرات جوهرية مختلفة تماما عن الصدمات الزراعية والصناعية السابقة
العدد 305 - الإثنين 07 يوليو 2003م الموافق 07 جمادى الأولى 1424هـ