يقول العلماء - والعهدة عليهم - إن مخ الانسان يحتوي على عشرة بلايين خلية (Neuron)، جاهزة للاستخدام منذ ولادة الانسان حتى وفاته. ويقول هؤلاء - والعهدة عليهم مرة اخرى - إن الانسان لو عاش ثمانين عاما فإنه يصرف معدل 3 في المئة من هذه الخلايا فقط. والانسان يستخدم هذه الـ 3 في المئة في العمل من اجل تحقيق السعادة لنفسه بالاعتماد على طاقاته البدنية والمعنوية. هذه الطاقات البدنية والمعنوية جميعها تحت تصرف وقيادة خلايا المخ الـ 3 في المئة. ووجد العلماء ايضا ان الاشخاص يصرفون هذا القدر على رغم اختلافهم في القدرات العقلية. وحتى اينشتاين لم يكن لديه شيء اكثر من غيره من الناحية البيولوجية غير ان الاختلاف اساسا يكمن في كيفية تنظيم وتوجيه وتركيز تلك القدرة الذهنية، وهذا هو السبب الذي يجعل 3 في المئة يصرفها انسان خلال ثمانين عاما أعظم أثرا وقدرة من 3 في المئة يصرفها انسان آخر يعيش العمر نفسه.
خلايا المخ والقدرة العقلية مكنت الانسان من الانتصار على بقية الحيوانات التي كان في فترة ما يعيش معها في الغابة. والانسان استطاع الخروج من الغابة والوحشية وتكوين المدنية لأنه استطاع استخدام تلك الخلايا لإنجاز امور عجز عنها غيره من المخلوقات.
فالانسان استطاع السيطرة على العلوم الطبيعية واستحدث السياسة والقانون والهيكلية الاجتماعية.
فمن خلال العلوم استطاع الانسان السيطرة على اجزاء مهمة من الطبيعة وتسخيرها لخدمته، ومن خلال السياسة استطاع السيطرة على اوضاعه الاجتماعية، ومن خلال القانون استطاع حسم القضايا المتكررة داخل المجتمع لصالح المجموع العام، ومن خلال الهيكلية الاجتماعية (رئيس ومرؤوس) استطاع توزيع العمل بين افراد المجتمع وتوجيههم بصورة انتاجية حسنة.
غير ان الانسان الذي اكتشف العلوم الطبيعية لم يستخدمها فقط لخدمته وإسعاده، وانما بدأ يطورها لصناعة وسائل الدمار الشامل من اسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية وهيدروجينية. والقنبلة الهيدروجينية تحدث انفجارا تنتج عنه حرارة وكثافة عالية وتغييرات كيماوية تتولى قتل الانسان بينما تبقي على المباني والعمران. الانسان استطاع الخروج من الوحشية والغابة بفضل العلم، ولكنه ايضا وبفضل هذا العلم قد يرجع نفسه إلى الوحشية والغابة.
الانسان ايضا سياسي بطبعه. فهو لم ينتصر على الاسد وغيره من المخلوقات لانه اقوى جسديا وانما انتصر لأنه اقوى عقليا، ولأنه استخدم فن السياسة لإنقاذ نفسه عبر أفضل الطرق وأقلها خسارة. استخدام السياسة في كل شيء يجعل الانسان «داهية»، وهذا الدهاء قد يتم توجيهه للصالح الخاص على حساب الصالح العام. والسياسة بين بني الانسان تصبح في كثير من الاحيان «سياسة القوي في مواجهة سياسة الضعيف». والقوة تستخدم تماما كما يستخدم الاسد والنمر وغيرهما قوته لأكل الضعيف والقضاء عليه. ويصبح شعار الكثير من بني البشر ان «الحق هو ما يقوله القوي».
ومن ناحية أخرى فالهيكلية الاجتماعية، والبيروقراطية، جميعها امور ضرورية لتسيير الحياة المدنية ومنعها من الانهيار والعودة إلى الوحشية والغابة. إلا ان الهيكلية التنظيمية قد تصبح اداة لخنق الانسان وضرب تطلعاته وسجنه ضمن شباك حديد صارم. وربما ان الاتحاد السوفياتي كان اكثر الدول بيروقراطية ولذلك «زاد عن حده فانقلب ضده»، كما يقول المثل. والبيروقراطية اصبحت وسيلة للفساد والرشوة بدلا من وسيلة لتمشية شئون الناس.
الانسان اذا لديه خلايا المخ وقدرة عقلية كبيرة جدا، ولكنه قد يستخدم كل هذا من أجل تدمير ما أنجزه من تحضر ومدنية. والانسان لو ترك حرا فإنه يختار الطريق الصحيح، ولكن المشكلة انه يواجه خيارات. فلو ان الشخص الذي يحتاج إلى مال معين كان امامه طريق صحيح وطريق خاطئ وكان كلا الطريقين يتطلبان جهودا متساوية، فإنه يتبع الطريق الصحيح والبعيد عن الخطأ والحرام. ولكن الامر هو ان البعض يتصور ان الطريق الصحيح وطريق الحلال مكلف وأصعب من الطرق الاخرى، ولذلك ينزلق في الطريق الخطأ. ثم بعد ذلك تأخذه العزة بالإثم ويحاول تبرير المسلك الخاطئ باستخدام التبريرات العلمية، او الدينية او العرفية، او تبريرات «الشطارة». عندما يكبر الانسان ويهرم به العمر ينظر إلى حياته فيما أمضاها وكيف وصل إلى ما وصل اليه من خير او شر. في كلتا الحالين لم يكن قد صرف من خلايا المخ سوى 3 في المئة
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 305 - الإثنين 07 يوليو 2003م الموافق 07 جمادى الأولى 1424هـ