يبدو أن الأمر الذي يتفق عليه كل المحللين أن جمهورية كوريا الديمقراطية تمثل قلقا للاستراتيجية الاميركية تجاه الشرق الأقصى، وآسيا عموما، على رغم أن الاجندة الاميركية السياسية يتصدرها العراق والقضية الفلسطينية - الاسرائيلية.
ومن المعروف ان ادارة الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون كانت قد توصلت في اطار اتفاق في اكتوبر/ تشرين الأول 1994 الى نص على تجميد انتاج (البلوتونيوم) في كوريا الديمقراطية، وفي سبتمبر/ ايلول من العام 1999 تم التوصل إلى ايقاف نشاط اختبارات الصواريخ البعيدة المدى التي كانت سببا في قلق اليابان والولايات المتحدة الاميركية.
وتعرض طريق الاقتراب من جمهورية كوريا الديمقراطية لنقد شديد من مسئولين اميركيين ووصفوه بأنه خضوع لابتزاز من نظام «بيونغ يانغ» الذي لا يستحق الوثوق به وبتعهداته، ووصفه المعارضون بأنه نظام متمرد ومتطرف، وكان المنتقدون لهذا الاقتراب يرون انه بدلا من ممارسة وهم الاشتباك الدبلوماسي مع كوريا الديمقراطية، يجب ان تقوم الولايات المتحدة الاميركية باحتوائها وعزلها حتى يتم اجتثاث تهديدها بتعجيل انهيار النظام فيها.
وفي يونيو/ حزيران 2001 قررت ادارة الرئيس «جورج بوش» الابن انتهاج سياسة استراتيجية جديدة تجاه كوريا الديمقراطية بأجندة أوسع تشمل تطبيقا متطورا لاطار الاتفاق الخاص بنشاط كوريا الديمقراطية النووي، وفرض قيود على برامجها الخاصة بالصواريخ، ومنعها من تصدير صواريخها لأي دولة، وكذلك تراجعها عن تهديد أي من جيرانها، وفي مقابل ذلك فإن الولايات المتحدة الاميركية ستحترم التزامها بتقديم معونات غذائية إلى شعب كوريا الديمقراطية، وعرضت واشنطن استئناف المفاوضات في «بيونع يانغ» من دون شروط مسبقة، ومباركة سياسة (الشمس المشرقة) التي اقترحها رئيس كوريا الجنوبية لتطوير العلاقات بين الكوريتين.
تفجير مبكر للأزمة الأميركية - الكورية
سارعت ادارة الرئيس«جورج بوش» الابن فور تسلمها مقاليد الحكم في المكتب البيضاوي في البيت الابيض إلى تجميد الانفراج الطري العود مع «بيونغ يانغ» بالتزامن مع تشديد اللهجة مع «بكين» واخراج كل من «طوكيو» و«سيئول»، ولكن كان لابد من انتظار اقرار كوريا الديمقراطية ببرنامجها النووي كي تتمكن هذه الادارة المتعطشة لاشعال الازمات من تسجيل صوابية موقفها في المقارنة مع الادارة التي سبقتها.
حدث هذا على رغم تأكيد كوريا الديمقراطية أن برنامجها النووي له طابع دفاعي وليس هجوميا، فالقنبلة بالنسبة اليها ليست من اجل تهديد الجيران، وانما هي قيمة رادعة، وسانحة بالتفاوض على مساعدة اجنبية ضرورية للاسعاف الاقتصادي، وهذا يترجم بدوره على صعيد العقوبات، إذ تحددها الولايات المتحدة الاميركية في تجميد المساعدات الانسانية الدولية، اي انها تعاود سياسة فريق الرئيس السابق بيل كلينتون في البيع والشراء مع كوريا الديمقراطية.
خلال مقابلة أجرتها معها شبكة (سي. بي. اس) املت مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس في ايجاد حل سياسي مع «بيونغ يانغ»، في حين اعتبرت ان كل الحلول السلمية باءت بالفشل مع العراق (!)، ولم تتوان عن الزعم ان ثمة اختلافا اقتصاديا بين البلدين بذريعة أن العائدات النفطية للعراق تسمح له بتمويل برامج التسلح، وانه على صعيد القانون الدولي خرق (16) قرارا من قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحقه، في حين ان كوريا الديمقراطية خرقت معاهدات دولية وتعهدات.
على رغم ذلك لا يسمح تمييز الحال الكورية الديمقراطية عن العراقية بإخراج الأولى من (محور الشر)، فقد سارعت واشنطن إلى اعتبار برنامج تخصيب (اليورانيوم) بمثابة الغاء لاتفاق العام 1994، وهو ما برره الجنرال المتقاعد وزير الخارجية الاميركية كولن باول على قاعدة انه بتجاوز أحد الطرفين للاتفاق يتم تجاوز الاتفاق نفسه، وبالتالي فإن «بيونع يانغ» تتجه إلى أحد خيارين، إما التخلي عن البرنامج النووي، وإما العزلة الاقتصادية.
الولايات المتحدة الاميركية تعتبر ان الفقر المدقع في كوريا الديمقراطية هو الذي يسمح لها بالاعتماد على سياسة الضغوط، إلا انها تبالغ بذلك بمجرد اختزالها مسألة التسلح الى رغبة في استجداء معونات اكثر، ولو انه لم يعرف بعد الى اية درجة يمكن ان تذهب هذه الضغوط.
هناك بعد اقليمي للمسألة، فالحرب الكورية لم تنته رسميا الى الآن، وما يحكم شبه الجزيرة الكورية هو هدنة العام (1953) ليس إلا، اي ان الدولتين، الشمالية والجنوبية، لاتزالان في حال حرب، فضلا عن ان هذه الحال لاتزال قائمة بين «بيونغ يانغ» وواشنطون، وهذا ما يفسر اصرار الاولى على معاهدة ثنائية بين البلدين، في مقابل اصرار الولايات المتحدة الاميركية ليس فقط على تجميد برنامج اسلحة التدمير الشامل، بل إلغائه.
واذا لم يتم استكمال المفاوضات مع كوريا الديمقراطية بالنسبة إلى القدرات النووية والصاروخية، فإن العام الجاري (2003) سيكون عاما خطيرا، إذ اعلنت كوريا ان اتفاقها على وقف اختبار الصواريخ البعيدة المدى انتهى فعليا في مطلع هذا العام (2003)، وان التأخر في انشاء المفاعل النووي المائي زاد على الحدود، الأمر الذي قد يجعلها تهدد باستئناف انتاجها لـ (البلوتونيوم)، لأنها لم تحصل على بديل للطاقة.
ان كوريا الديمقراطية قد تختار الاستمرار على الوضع الراهن طالما استمرت المساعدات الاجنبية على المستوى القائم نفسه، ويمكنها ان تستمر في تجميد انتاج (البلوتونيوم) واختبارات الصواريخ في الوقت الذي تواصل فيه العمل في المجالات الاخرى لبرامجها النووية والصاروخية التي لا تتأثر بتجميد النشاطات المطلوبة، كما يمكنها ان تواصل المباحثات مع الولايات المتحدة الاميركية الى ما لا نهاية في الوقت الذي تحصل فيه على مساعدات من كوريا الجنوبية، وهذا يعني انها تسعى إلى كسب وقت كي تبني قوتها وقدراتها استعدادا لصدام محتمل قد لا يمكنها تفاديه، وتفكر الولايات المتحدة الاميركية في تفجيره معها.
والمشكلة مع طرق الاقتراب العنيفة هي انها تؤدي بسرعة الى مواجهة عسكرية، ويرى البعض أن الولايات المتحدة الاميركية ليس لديها حل عسكري لنزع سلاح أو تدمير نظام كوريا الديمقراطية، ولهذه الاسباب فإن عددا من الرسميين الاميركيين قد يفضلون تطورا تدريجيا والاحتفاظ بالوضع الراهن، في الوقت الذي يتم فيه الاستعداد للضغط بشدة بعد أن يكون المفاعل المائي قد نفذ خلال عدة سنوات، ويعتقد هؤلاء ان كوريا الجنوبية واليابان والصين ستقنع الولايات المتحدة الاميركية بالعمل على سلوك هذا الطريق.
من الصعب رؤية فرصة كبيرة لتقدم درامي في أي من المسألتين، النووية والصاروخية، وبالنسبة إلى الوقت الراهن قد تكون كل من الولايات المتحدة الاميركية وكوريا الديمقراطية راضيتين بالوضع الراهن، فكوريا تحصل على المعونات والولايات المتحدة تحصل على تجميد انتاج (البلوتونيوم) وايقاف اختبارات الصواريخ مع استمرار الدبلوماسيين من البلدين في التفاوض والمباحثات، ومع ذلك، من المحتمل ان يقوم اي من الطرفين بالتوقف مع الوقت وتحدث الأزمة، فقد لا تتمكن كوريا الديمقراطية من مقاومة اغراء حافة الهاوية التي تثير رد فعل قويا من الولايات المتحدة الاميركية، كما قد تقوم واشنطن بالضغط أو معاقبة كوريا الديمقراطية الأمر الذي يولد رد فعل قويا من «بيونغ يانغ»، ويرى المراقبون ان المواجهة بين الدولتين ليست مستبعدة، ولكن الولايات المتحدة الاميركية لا تعطي المسألة الكورية اسبقية في الوقت الجاري، ربما لانشغالها بمسائل أخرى، كما لا يعتقد ان الموقف سيصل إلى مواجهة بين الولايات المتحدة الاميركية وكوريا الديمقراطية لأن «بيونغ يانغ» لا تريد ذلك، كما ان وضع الصين بوصفه جارا له حدود مع كوريا الجنوبية وعلاقات مع كوريا الديمقراطية يجعل الولايات المتحدة الاميركية تتردد في اية مواجهة محتملة في الشرق الأقصى
العدد 305 - الإثنين 07 يوليو 2003م الموافق 07 جمادى الأولى 1424هـ