لا تنتظروا من غني متخم أن يشعر بآلام الجياع، ولا تنتظروا من «مثقف» متنعم أن يعيش معاناة العمال والمحرومين، ولا تتوقعوا من شخص راتبه خمسة آلاف دينار ان يتخيل معنى وجع القلب حين لا يجد الفقير دينارا في جيبه قبل أسبوع من موعد صرف مرتب الشهر الجديد ليشتري خبزا لعياله. تلك «ثقافة» مدّعاة وأقاويل مزورة... لا يصدقها إلا الغافلون.
طرائف ما أوجعها!
اعترضت الخليفة العباسي المهدي امرأة فخاطبته قائلة: «ياعصبة رسول الله، انظر في حاجتي»، فأعجبه قولها، فقال: «والله ما سمعتها من أحد قط. اقضوا لها حاجتها واعطوها عشرة آلاف درهم». لم يسألها عن حاجتها، فقط أعجبته كلمتها فأمر لها بصرف ذلك المبلغ الضخم من بيت مال المسلمين.
وجاء شخص الى الخليفة العباسي الاول أبي العباس السفاح قائلا: «سمعت بألف ألف درهم، وما رأيتها قط»! فأمر بإحضارها من الخزينة وأعطاها له ليحملها إلى بيته!
سفه! تلاعب بالمال العام! تبذير! قساوة قلب! قل ما شئت، ولكن مؤرخينا وكتابنا القدامى يتفننون بسردها باعتبارها قصصا طريفة، فيذكرونها في كشاكيلهم التي تحمل للتسلية في الأسفار على ظهور النياق، لقتل الأوقات الطويلة التي تستغرقها الرحلة من بلدة إلى أخرى، ومن سلطنة إلى أخرى.
وهي قصص تحمل ما تحمل من الإدانة لتلك الحقب التي كان يسود فيها المنح والمنع، والبذل والإنفاق بحسب معايير ما انزل الله بها من سلطان. فيأتي الشاعر ليصف الخليفة أو الوالي بقليل مما فيه وبكثير مما ليس فيه، ليخرج من القصر محملا بالدرر والجواهر والياقوت. حتى تقرأ أن الوالي ملأ فم الشاعر الفلاني ذهبا. فإذا كانت مصائر المسلمين وأموالهم في ايدٍ لا تعرف معنى للمسئولية ولا تفكر في مصلحة العامة من الناس، فلا تسألوا لماذا كنا سادة العالم فعدنا أمة من العبيد.
وهي بلغة اليوم قرارات غير مدروسة، متهورة، قائمة على حال الرضا أو المزاج و«الانبساط»، وليس على أن يوضع المال في محله، أو ينفق على مستحقه، أو تراعى فيه حاجة الغالبية العظمى من الناس. هذا والمال او الثروة كان ولايزال من أكبر الأسباب الداخلة في تأجيج الصراعات والخلافات والحروب بين الدول وداخلها. ومازالت قضية «الثروة» مرتبطة بـ «الثورة»، في العالم القديم والحديث، من النهضات التي قادها الأنبياء والمصلحون الكبار، انتهاء بلينين وماو تسي تونغ وجيفارا والخميني و... وأخالها باقية كذلك إلى يوم يبعثون.
الصناديق الخيرية والأمم المتحدة
وفي البلد هناك تجربة مشرفة للمؤسسات المدنية، التي ترتكز على العمل التطوعي، وتسهم بدور كبير وفعال في سد النواقص ورفع جزء من العوز والحاجة الاجتماعية قدر ما تتحمله موازنتها: ألا وهي الصناديق الخيرية. وهي تجربة مشرفة للبحرين وشعبها، تعكس روح التكافل الاجتماعي في وجه التغيرات الصعبة التي تعصف باوضاع اقتصاد البلاد والمنطقة. ولكي نعرف ما تقوم به هذه الصناديق علينا ان نعرف ما أوصى به «خبير» من خبراء الأمم المتحدة زار البحرين قبل سنوات ودرس حالات الفقر، فخرج «سيادته» بتوصيات على طريقة من أراد ان يكحلها فعماها، والحمد لله أن احدا من المسئولين لم يستجب له، وإلا دفع آلاف الفقراء في البحرين الثمن غاليا، نقصا في الخبز والملح الذي يفطرون عليه. أهم تلك التوصيات الجهنمية: أن يتم حذف 10 في المئة من الأسر الفقيرة التي تتلقى مساعدات من الشئون، وتقليل المخصصات التي تعطى لبقية الأسر!
ونحن لا نلوم خبيرا أجنبيا مستوردا من وراء البحار ليعلمنا ما ينبغي أن نعمل، فديننا وأخلاقنا ومبادؤنا تزودنا باروع الارشادات «الانسانية»، وهذا ما قامت وتقوم به الصناديق الخيرية من دور مشكور، في سد النقص ورفع العوز عن شرائح لا يستهان بها من ابناء المجتمع، مع ما نشهده من اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء في هذا البلد، ومع تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تشكل القاعدة الواسعة التي يقوم عليها الاقتصاد. والتي باتت اليوم مهددة أكثر وأكثر بالالتحاق بخانة الفقر والحاجة، مع عدم وجود سياسة واضحة وفاعلة للبحرنة «الحقيقية» ومعالجة البطالة والتحكم في العمالة الواردة وغيرها من مشكلات يعرفها الجميع.
قراءة في قرار خاطئ
القرار الذي اتخذه مصرف وطني كبير في فرض ضريبة على الاستقطاعات الدورية لصالح الصناديق، لا ينسجم مع توجهات المصرف وسمعته ودوره الوطني المشرف. وكانت نقاشات المجتمعين لتدارك الكارثة في مركز السنابس الثقافي قبل عدة ليالٍ تدور في حلقة من التخمينات، وكان التخوف شديدا من ان يكون القرار نهائيا معتمدا من مجلس الإدارة، وهو امر مشكوك فيه، خصوصا ان هناك خبرا يقول ان القرار اتخذ بعيدا عن الإدارة، وكان مجرد اقتراح رفعه أحد الموظفين إلى مسئول كبير في المصرف فأقره، ثم عمّم على الفروع، التي بادرت إلى الإتصال بالصناديق لتضعها في الصورة. وللأسف الشديد ان يتم اتخاذ القرارات بهذه الصورة، من دون مراعاة ليس لمصلحة الصناديق، وإنما لمصلحة ذلك القطاع الواسع من الشرائح المطحونة التي تفطر على الماء والملح.
بل ان هناك مخاوف يطرحها آخرون ممن يتابعون الشأن السياسي العام، ويربطون هذه الخطوة بالضغوط الأجنبية التي بدأت في عدد من الدول لإبعاد وتنفير المواطن العربي من التبرع للمؤسسات الخيرية، في خطوة للإجهاز عليها ضمن إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب. فالقضية إذا بحسب هذا الطرح قد تتجاوز ما تصوره المجتمعون في مركز السنابس الثقافي، وهو ما لا نتمنى أن يكون صحيحا، خصوصا ان مجال عمل صناديق البحرين الخيرية تنحصر في غالبها في الإطار الجغرافي للبلد، وقليلا ما تتعداه إلى الخارج.
وهناك من يقول ان الخطوة تأتي في إطار سعي المصرف للتخلص من العملية برمتها، خصوصا وانه سبقتها عدد من الخطوات الأخرى التي تدعم هذه الفرضية، من قبيل رفض إيداع النقود المعدنية المجموعة عبر الحصالات ورفض الاستقطاع شهريا والاقتصار على فترة الأشهر الثلاثة او الستة او السنة.
المصرف من جانبه برر خطوته في المصاريف الإدارية والقرطاسية والتشغيل، ولكن وضعه المالي افضل من بقية المصارف، كما يقول الخبير الاقتصادي جاسم حسين، فأرباحه العام الماضي بلغت 19,250 مليون دينار، بنسبة زيادة 6 في المئة عن العام الذي سبقه. واقترح أن يعتبر المصرف ما يقدمه كنوع من الخدمة الاجتماعية للناس.
الفقراء ليسوا بحاجة إلى استدرار الدموع، وإنما بحاجة إلى قلوب تعرف معنى الإنسانية في قراراتها، ولا تقتصر في تفكيرها على جني مزيد من الأرباح، على حساب الفقراء والبائسين.
الأرقام موجودة، وتثبت أن المتبرعين أغلبهم من أصحاب رواتب المئة والخمسين دينارا ، فهم الذين تحن قلوبهم على جيرانهم الفقراء، فيما يفكر «الكبار» في اقتطاف مزيد من الأرباح. وكلي رجاء أن يعاد التفكير في القرارات الخاطئة التي تمس الفقراء .
آراء كثيرة متشعبة، في قضية تهدد ليس مصلحة الصناديق الخيرية وأداءها الناجح حتى الآن، وإنما سيتضرر منها آلاف المواطنين الفقراء الذين لا يعرف اصحاب رواتب الخمسة آلاف دينار معاناتهم قبل نهاية الشهر حين يصبح توفير الخبز للعيال هما يطحن القلوب
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 305 - الإثنين 07 يوليو 2003م الموافق 07 جمادى الأولى 1424هـ