هناك الكثير من الأسئلة عن الأسلوب الذي تدير به السلطات الأميركية في العراق شئون هذا البلد المحتل. وبحسب الاتفاقات الدولية وما تقوله نصوص المعاهدات في جنيف ونيويورك (الأمم المتحدة) يتحمل الاحتلال مسئولية كل ما يحصل في البلد الواقع تحت الانتداب او الوصاية او الاشراف من الدولة (او الجهة) التي دبرت عملية الاجتياح.
كل ما يحصل في العراق الآن وبعد اعلان الرئيس الأميركي جورج بوش في الأول من مايو/أيار الماضي نهاية العمليات الكبرى تتحمل مسئوليته القوات المحتلة. حتى ان مسئولية كل ما جرى بعد 9 ابريل/نيسان (سقوط بغداد) من نهب وحرق وتدمير وسرقة وقتل وغيرها من اضطرابات وفوضى تقع فورا على الجهة التي كانت السبب المباشر في الانهيار العام وتفكيك الدولة وإلغاء كل مرجعية قانونية او دستورية في البلد.
الولايات المتحدة إذا، وبحسب النصوص القانونية والاتفاقات الدولية، تتحمل مسئولية الحوادث الدموية والاجتماعية التي عصفت بالعراق مهما تكن الذرائع التي يحتج بها الاحتلال وإدارته. حتى عمليات نهب المؤسسات والمدارس والمستشفيات والمتاحف والوزارات وغيرها من أعمال شغب وإثارة وبلبلة وقلاقل يتحمل الاحتلال نتائجها لأنه في الاعراف الدولية هو المسبب الرئيسي والمسئول المباشر عن التداعيات التي تحصل عادة في لحظات التغيير والانتقال من مرحلة الى أخرى.
كذلك يتحمل الاحتلال، وفقا للمرجعيات الدولية والقوانين المتفق عليها في معاهدات موقعة من مختلف الدول في جنيف وغيرها، مسئوليات إعادة الأمن وانهاء الفوضى وتأمين حاجات الناس من مياه وكهرباء ومستشفيات وأدوية ومدارس وغيرها من متطلبات معيشية وخدماتية... لأنه كان السبب المباشر في تعطيلها او منعها او ضربها وتخريبها. فالمسئولية تقع على الاحتلال مهما يكن النظام السابق يتمتع بالظلم والاستبداد والتفرقة والتمييز. فهذه وبحسب المرجعيات الدولية، ليست ذرائع كافية وليست حجة للتذرع بعدم مسئولية الاحتلال. فالنصوص واضحة في هذا المجال، وهي ايضا قاطعة في تثبيت المسئولية على الجهة التي تقوم بعمليات الاحتلال. حتى إذا وقعت المجازر ضد المدنيين او تعرضت القرى وأحياء المدن الى غارات من النهب والحرق والسرقة والقتل فإن الاحتلال يتحمل مسئوليتها المعنوية والمادية. وفي حال مثلا حصلت اضطرابات مدنية او سياسية وحصلت اعتداءات او قلاقل طائفية او مذهبية او عرقية او قبلية فردية او جماعية يتحمل الاحتلال مسئولية وقوعها او التحريض عليها لأنه كما تقول القوانين الدولية كان هو المسبب في إتاحة فرصة وقوعها او على الأقل أسهم في فتح الباب لحصولها.
الاحتلال إذا، وبحسب ما اتفقت الدول الكبرى عليه ووقعت على نصوصه ومواثيقه، ليس فقط عملية حربية تنتهي عند انتهاء المعارك العسكرية وإعلان الفوز في مهرجان خطابي من على ظهر مدمرة أميركية على بعد آلاف الأميال من العراق. الاحتلال هو ايضا وبحسب تلك القوانين مسئولية مدنية عامة تشمل كل القطاعات الحياتية والمعيشية والخدمية إضافة الى تأمين مصادر الرزق والانتاج والاستشفاء وترميم الطرقات وإعادة بناء ما دمرته آلة الحرب. وكل ما حصل من نتائج سلبية او ردود فعل كارثية يتحمل الاحتلال مسئولياتها.
لاشك في ان الإدارة الأميركية في واشنطن تعرف كل هذه المسائل وتدرك انها تتحمل عرفا وبحسب المواثيق والقوانين الدولية كل ما نجم في العراق من كوارث اجتماعية وانسانية وسياسية. فالدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى حين وضعت تلك القوانين واعادت تثبيتها وتطويرها بعد الحرب العالمية الثانية... وضعتها بهدف تطمين الدول المنكسرة والخاسرة والفاشلة الى حياتها ومستقبلها. كذلك وضعت لتكون قوة ردع لأية دولة تعمد إلى احتلال دولة مجاورة لها او بعيدة عنها. فالمواثيق الدولية جاءت للرد على امرين، الأول تطمين شعوب الدول المستضعفة والمقهورة، ثانيا، تخويف الدولة القوية من طموحاتها واطماعها وردع القوة العسكرية بمجموعة مسئوليات تشمل دفع كلفة إعادة البناء والترميم.
هذه المسائل والمسئوليات المدنية العامة لاشك تعرفها الولايات المتحدة وتدرك إدارة واشنطن معناها ومدى خطورة الأمر في حال تجاهلت بنود المواثيق الدولية التي تلزم الدول القاهرة تحمّل مسئولية ونتائج ما يحصل في الدول المقهورة. فالرسالة واضحة لمن يريد الحرب. فالحرب ليست مجرد عمليات عسكرية وتدميرية بل هي أيضا مسئولية إعادة تعمير ما دمرته آلة القتال. كل هذه الأمور تعرفها إدارة البيت الأبيض مع ذلك تتصرف وكأنها لا تدرك او لا تعلم مدى ما تتحمله إدارة الاحتلال من مسئوليات شاملة. كذلك فأن المقاومة حق شرعي ولا يجوز التعامل مع المقاومين وكأنهم لصوص وقتلة او حفنة من مجرمي الحرب. فالمقاومة مشروعة وبحسب الاتفاقات الدولية ومواثيق جنيف. فكل دولة تحتل دولة من حق الشعب المحتل مقاومة الاحتلال بكل الأساليب المشروعة لاستعادة سيادته وحريته واستقلاله. والولايات المتحدة التي احتفلت في 4 يوليو/تموز الجاري بيوم الاستقلال عن بريطانيا، تعرف هذا الأمر وتعلم انه من حق الشعب العراقي المقاومة لطرد الاحتلال ورد سيادته واستقلاله. فحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار قيادتها والتصرف بشئونها في استقلال عن الهيمنة والسيطرة مسألة مشروعة دوليا ولا تتعارض مع القوانين الدولية.
الاحتلال هو الذي يخالف الشرعية الدولية وليست المقاومة. وهذا تدركه الادارة الاميركية وتعرفة وتعلمه.
والسؤال اذا كانت واشنطن تدرك وتعلم وتعرف كل هذا عن قوانين الاحتلال وحق المقاومة لماذا تتصرف ادارة بول بريمر في بغداد عكس التيار محاولة تحميل الناس مسئولية الكوارث التي حلت بهم من جراء الخراب والدمار اللذين الحقته بهم آلة الحرب الاميركية؟
فعلا الجواب محير. فما المقصود اميركيا من وراء ترك الفوضى في العراق وعدم الاهتمام او الاسراع من قبل ادارة الاحتلال على تأمين متطلبات الناس من معيشة وخدمات وادوية وماء وكهرباء وأمن اجتماعي؟ ولماذا تركز إدارة الاحتلال على مسألة واحدة هي مطاردة رجال المقاومة وتعقب فلول النظام المخلوع تاركة كل المسئوليات الاخرى؟ فما المقصود من وراء تأجيل اتخاذ التدابير الضرورية لتأمين الخدمات البسيطة للناس وكذلك إدارة ظهر الاحتلال لكل المؤسسات التي تلبي الحد الادنى من الاستقرار النفسي - الاجتماعي للمواطنين العراقيين؟
اسئلة كثيرة بدأت تثار عن الاهداف البعيدة او المتوخاة من وراء الاسلوب السخيف الذي تدير به السلطات الاميركية شئون الاحتلال في العراق. فهل المقصود المزيد من الانهيار والفوضى حتى ينقسم المجتمع بعد أن اضمحلت الدولة؟ ام ان الفلتان الامني يبرر المزيد من التعزيزات والحشد العسكري لتحقيق اهداف سياسية كبرى تتعدى حدود العراق؟
اسئلة كثيرة وكلها تثير شبهات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 305 - الإثنين 07 يوليو 2003م الموافق 07 جمادى الأولى 1424هـ