شهدت العاصمة الكينية نيروبي أمس جولة جديدة من مفاوضات السلام السودانية لعلها قد تكون الأخيرة و«مسك الختام» للحرب وليس تكرارا لما سبقها من جولات ماضية. وتعبير «مسك الختام» هو اسم عملية عسكرية أطلقتها حكومة الخرطوم ضد حركة التمرد في جنوب السودان بقيادة جون قرنق. وربما تحمل لنا الأنباء القادمة من كينيا في الأيام المقبلة بان أعداء الأمس سيصبحون شركاء في الحكم، وعندها يحق لنا أن نطلق اسم «مسك الختام» على هذه الجولة مع الفارق بين المعنيين.
وقد صدرت من الخرطوم في الفترة الماضية الكثير من الإشارات الموغلة في التفاؤل بشأن اتساع فرص تحقيق السلام في البلاد، ولكن مقتضيات الحال وظهور بوادر ضيق من وجود أحزاب المعارضة وأي طرح فكري مغاير لنهج الحكومة يجعل المراقب يتوقف كثيرا أمام ما تعلنه الحكومة السودانية من تصريحات وما تعكسه ممارساتها السلبية من جهة أخرى.
فقد أعلن الرئيس السوداني عمر البشير قبل أيام من احتفالات البلاد بالعيد الرابع عشر لحكومة الإنقاذ ان الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة قرنق ستكون الشريك الرئيسي في حكومة جديدة تتشكل بعد انتهاء الحرب الأهلية المستمرة منذ عشرين عاما في جنوب السودان.
وتعززت الآمال بتحقيق السلام في السودان اثر الزيارة التي قام بها البشير لمنطقة الجنوب في إطار الاحتفالات إذ وعد بالدعم الاقتصادي بغية تشجيع عدم الانفصال، وأشار إلى انه سيأتي الى مدينة جوبا مرة أخرى بعد شهرين للاحتفال بتوقيع اتفاق السلام مع الحركة الشعبية.
واستأنف الجانبان مفاوضاتهما في كينيا بعد إرجائها في 21 مايو/أيار الماضي. وقد زار الوسيط الكيني لازاروس سومهييو أخيرا المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة في الجنوب للتحقق من الأوضاع هناك. وذكر مصدر في مؤسسة لدعم عملية السلام في السودان أن من المنتظر أن يتم تقديم اتفاق سلام إلى ممثلي الحكومة والجيش الشعبي خلال الجلسة الأخيرة من محادثات السلام.
وتتناول جولة المفاوضات الجديدة الترتيبات الأمنية في فترة ما بعد الحرب وترتيبات اقتسام السلطة وتوزيع الموارد والوضعية الدينية للخرطوم. ويقول مراقبون إن محادثات السلام الرامية الى إنهاء الحرب بين جنوبي السودان وشماله تكتسب زخما. وتردد أن سومهييو قال إن من الممكن إبرام اتفاق نهائي في أغسطس/آب.
هذا هو الجانب المشرق من التلميحات التي أخذت الخرطوم في تردديها لإقناع العالم والشعب السوداني بان بوادر إحلال السلام قد لاحت في الأفق، ويجب ان يترقب الجميع الخطوات المقبلة، وان يمهدوا الطريق لإكمالها. لكن الجانب الأخر المقلق للصورة يقول عكس ذلك فقد طالب الرئيس السوداني قبل عيد الإنقاذ زعماء المعارضة التاريخيين المهدي والميرغني والترابي بأن يتركوا الساحة السياسية ويبتعدوا ولكنه لم يوضح لمن؟
عمليات الاعتقال ضد عناصر المعارضة في الداخل لم تتوقف وتتم لأتفه الأسباب، ومصادرة الصحف الخاصة والمستقلة آخذة في التزايد كلما انفردت صحيفة بخبر أو مقال لا يعجب أصحاب السلطة وكان دورها هو إرضاء السلطان وليس توجيه الانتقادات لأوجه القصور والخلل. وفي فورة تطرف مفرط وجهت جماعة محسوبة على الجناح المتشدد في الحكومة تهديدات بالقتل الى عدد من كوادر حزب معارض عاد الى العمل في الداخل ما يعطي صورة سيئة للمعارضين في الخارج الذين تدعوهم السلطات صباح مسا ء للعودة إلى ربوع الوطن.
الحديث الذي يدور في الساحة السودانية عن قرب إحلال السلام يحمل في طياته الكثير من الحقيقة والحلم الذي راود أفراد الشعب طيلة حقب الحكم التي تعاقبت على السودان منذ الاستقلال، ولعل عهد الإنقاذ الذي يحسب له إنجاز الكثير من النجاحات والكثير من الإخفاقات كغيره من الحكومات السابقة يحقق للسودان هذا النجاح وعندها سيكون هذا الإنجاز هو الأعظم وقد يضع حدا لمسلسل الانقلابات العسكرية التي اشتهرت بها الخرطوم دون سواها من العواصم العربية الأخرى.
اتجاه الإنقاذ الى خط طريق السلام يعتبر إقرارا بعدم نجاح أي حزب سياسي سوداني مهما كانت قاعدته عريضة أو صغيرة في التمكن من حكم السودان منفردا. وتوصل القوى السياسية في الداخل والخارج الى هذه القناعة سيكون بداية الطريق الصحيح الى قيام نظام حكم يستوعب الجميع ولا يحظر حق أية جهة مهما كانت توجهاتها وليتفرغ الجميع الى إعادة بناء الوطن وانتشاله من حالة الفوضى والحروب.
بوادر السلام ترفرف على ربوع السودان وعلى الجميع أن يتفهم أهمية هذه الجولة ويعمل على انجاحها، وينبغي على الخرطوم أن تفتح صدرها واسعا لبقية أطراف المعارض الخارجية لتكتمل بهجة الصورة
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 304 - الأحد 06 يوليو 2003م الموافق 06 جمادى الأولى 1424هـ