العدد 304 - الأحد 06 يوليو 2003م الموافق 06 جمادى الأولى 1424هـ

لأنها... هي... مجرد أنثى

الأحساء - زهراء موسى 

تحديث: 12 مايو 2017

جنازة...

- ألا تذكر هذه ابنتي الوسطى...؟

- أنهت دراستها وهي تعمل الآن...

- ....

- ألم تعرفها؟

- أهذه هي تلك الصغيرة الصامتة المطيعة؟!

- بدأت تتذكرها...؟ ش

- نعم أذكرها ما شاء الله أصبحت عروسا، أذكر عندما غادرت الوطن منذ سنوات طوال كانت طفلة لم تتجاوز العام من عمرها، كانت دوما صامتة لا تبكي ونادرا ما تضحك، كانت قد بدأت تخطو خطوات مترددة، تسقط بعد الخطوة الثالثة، كنت أرفعها من الأرض أحضنها ظنا مني بأنها ستغرق في بحر من دموع البراءة لكنها ترفض أحضاني، مفضلة صلابة الأرض وتعود مكررة خطواتها الثلاث...

«وقفت أتأمله كالبلهاء أنا لا أذكر ما قاله أبدا، أيعرفني هذا الغريب أكثر مما أعرف عن نفسي، وما به ينظر إليّ بهذه الطريقة ويمسك بيدي مسلما بحرارة كصديق قديم... بدأت يده تزعجني... أريد التخلص منها أحاول سحبها لكنه مصر على امتلاكها ولو للحظات، وكأنها دهر بالنسبة لحواسي...».

- عزيزتي ألا تذكرين (؟) إنه ابن صديقي الذي كان يدرس في انجلترا وعاد لتوه..

- .....

- من الصعب عليها تذكري، عمرها من عمر الغربة.. سنوات طوال.

«مازال يتكلم وكأنه جزء من ماض يحاول أن يدفعني فيه، آآآه، أخيرا أحس برغبة يدي في الحرية وأطلقها بعد أن كانت قد غرقت في العرق... أهو الماء الهارب من جسدي أم أنه شيء من جسده أم أن أكثر الأشياء حرمة امتزجت على يدينا وصارت جزءا منا...».

-آسفة أنا لا أذكرك أبدا أبدا.

- هذا مؤسف جدا شعرت بأني لم أسافر يوما في أول يوم عدت فيه للوطن لكني اليوم أشعر أن الزمن خانني مضى بسرعة من دون أن أعلم كيف تسرب مني ومتى ضاع وكيف وجدته اليوم.

- (؟) بدأت تتكلم بالألغاز، تعال معي لتحكي لي ما فعلت بك الغربة طوال غيابك.

- سعدت برؤيتك وأتمنى أن أراك مجددا، وقريبا جدا جدا...

«اكتفيت بابتسامة حاولت قدر الإمكان أن تكون غير مفتعلة وأعتقد أني فشلت في مسعاي حين قرأت وداعا غريبا في عينه... أهو خوف من الغربة من جديد...

رجل غريب جدا اختفى قبل أن أعرفه لكنه عرفني في أحد الأزمنة ويأتي اليوم في مثل هذه المناسبة ليفرغ ذكرياته ويجعلني جزءا من الماضي، يأتي ليبدأ حياته في مناسبة كهذه لا توحي إلا بالنهايات، إنها جنازة أيبدأ أحد حياة جديدة في جنازة؟».

رؤيا

كيف قفز هذا المخلوق من الواقع إلى عالمي الخاص. كيف استطاع التسلل بين كل تلك الرؤى...

هل قابلته اليوم فعلا في الجنازة...

هل كانت هناك جنازة أصلا اليوم...

يا ترى ما الذي حدث لي اليوم ....

كل شيء غريب...

من أنا...

هل أنا موجودة أصلا...

هل سأرى نفسي في المرآة إذا أشعلت الحجرة نورا...

هل هناك نور أصلا...

أظنني بدأت أجن، فلأقم وأثبت لنفسي أن روحي مازالت عالقة بجسدي بل هي تسري فيه من بعيد دون أن تلمسه...

نعم هذه أنا مازلت أعتقد بوجودي... (مدت يدها إلى المرآة تلمس ملامحها... عينيها... أنفها... بشرتها المتعبة... رقبتها... حاولت دفع يديها في المرآة بكل قوة...).

الواقع أظنني فعلا سأجن إذا لم أعد للنوم مجددا...

يوم بعد الجنازة...

- ما بك اليوم...

- تعبة قليلا

- هل أنت حزينة؟ أعرف أن الموت شيء بشع...

- لست حزينة لهذا السبب، لقد اعتدت مثل هذه المواقف، أنا أصلا لم أكن أعرف الراحلة بشكل جيد، كانت علاقتنا هشة...

- إذا...

- شيء غريب حدث البارحة، رأيت أحد أصدقاء العائلة في الجنازة، عاد لتوه من الغربة، إلى هنا كل شيء كان طبيعيا إلى أن رأيته في....

- ما بك؟

- .....أأأتصدقين لو قلت لك أنه الجالس خلفك الآن...!

- ... من هو؟

- صديق العائلة، الجنازة، ثم الحلم، والآن هنا.

- مرحبا كيف حالك؟

- بخير

- أيمكنني الجلوس.

- تف...

- شكرا

كم هو جريء، ما به يا ترى كيف يدعو نفسه للجلوس... كيف يتبادلان الأحاديث كالأصدقاء... كم هما غريبان... غريبان ومتآلفان...

- وداعا

- سعدت بلقائك...

كيف ترحل... تتركني... وحدي...

- ما بك صامتة؟

- ...

- أتعلمين اشتقت إليك...

- ...

- أحبك...

(قامت بلا وعي... غادرت... لم يحاول منعها... لم يبدِ استغرابه... اكتفى بمجرد ابتسامة...)

هي والأنثى...

كم أتمنى أن يمتصني البحر... حديث الموج يحرقني... ضحكاته الساخرة تدفعني لاعتناق الجنون... بكل صلواتي أستغفرك... أبعدني عن سخريتك... أتوسل أن ترحم ضعفي أو ربما بدايات جنوني... لكني احبك أيضا... لم أبح بعشقي لموجود قبلك... أني أعشقك... أعشق همساتك في بداية كل شتاء... هل سأحفظك في ذاكرتي عندما تحين مواعيد الفراق المملة والمؤلمة... ربما...

سأدفع بك... بكل أمواجك... بصوتك العذب في نهاية كل صيف... إلى ذاكرتي... مسجون أنت... أن تعذب... تتوسل إليّ... أفضل من أن تظل هائما بعيدا عني... بهذا وإن كان شبه هذيان... أكون أنا الأقوى لكن دونما قلب...

أراد الله يوما أن يهبني قلبا... لكني استنكرت عطاءه... أن تجحد عطاء الله... يعني أنك...

فإذا بالقلب يتحجر... يسقط متهشما أسفل قدمي... كل قطعة أصبحت أصغر من ذرات الرمل... ذرات تذروها مشاعري على رأس المنارة... بعيدا تسري في هذا الكون...

لو أصبح عدما... أقطع صلتي بالعالم... أسترخي... أعد...1 ,,2,,,3. وأختفي أصبح عدما... لا شيء... فيشك من حولي في وجودي... في وجودهم... في يقظتهم... في أحلامهم... لا أريد أن أموت... آآآآآآآه أيها العدم كم لك من فضائل... إنك لا تألم، هذا أولا... أنت لست موجعا، هذا ثانيا... وثالثا ورابعا... يزيدني الهذيان قسوة. الرغبة في الطيران تنتابني كما الموت. أركض مبتعدة فيما يشبه المشي أنطلق في السيارة لعلّي أمضي إلى البعيد الذي لا يعرف القرب. بوابة آخر الدنيا في طريقي مفتوحة على مصراعيها لكني أكتفي بالنظر من بعيد دون الاقتراب وكأني طفلة تخاف الدخول في تجارب الهذيان الأولى أريد لمس ذلك القبر فكلما رأيته يسقمني بلوعة ليس حزنا ولا رهبة بل هو الحب. هل أحب أحدكم يوما قبرا... أنا بكلي أعشق القبور لأنها لا تخيف إنها الأجمل بين أشياء العالم، بين تضاريس هذا الكون... إنها عالم منفصل جميل... آآآآآه من ظلم هذا العالم حتى القبور من المستحيل أن تختلي بها فتاة لأنها فتاة... مجرد كونها أنثى يجعلها عاجزة عن نيل مشاعرها أو مشاعرها مشلولة في وحل المجتمع... آآآآآآه أيها المساء كيف لا تكتب في صفحات قدرك الوردي لهذه الأنثى نعمة الوحدة نعمة الاختلاء بذاتها بعيدا عن الصوت في عالم لا ينطق... لا يبصر... لماذا لا تحميها من نظرات القوم الذين يحملون رغباتهم على رؤوسهم لمجرد أنهم رجال... فقط رجال...

(تتراكم ألوان بلا ملامح... معان لا معاني لها... إنها أنثى تحاط بهالة من الحواجز... ما ان تعبر بوابة إلا وتنبثق أخرى من العدم... عملية تناسل لا تنتهي... لا تعرف متى ولد الحاجز الأول ليظهر حفيدها الأخير...

ينتهي كل شيء ما أن تبصر كومة الحجارة المتآلفة التي تسكن في أعماقها... لتعود إلى الوجود حيث...).

كانت أنثى...

- مبروك عزيزتي... لقد طلبك (؟) للزواج وأنا ووالدك موافقان... مبروك...

- ...

- مبروك ألف مبروك...

- ...

- ...

- أنا لست موافقة... أنا لست موافقة......... لست موافقة.

(أنها المرة الأولى التي تعلن فيها رفضها وسط ذهول الجميع... الفتاة الصامتة... المطيعة... الجميع سكت ذهولا خشوعا لرغبتها... لم تعد هي هي بعد اليوم... مضت تاركة الجميع في صلاتهم خاشعين متضرعين أن يعيد الله لها ما سلبت من عقل... ربما بفعل من شياطين الأفكار... أما هي فلم تنس أن ترمي بقلبها على الطريق وهي ماضية سحقته بحذائها فتصاعد منه ألم وردي لكنها مضت دون أن تنظر إليه، حتى لا تشفق روحها على ضعفها فتندم).

أيها القلب، أنت هو قلبي... ابتعد أيها الإشفاق فلم يعد لك مكان...

أسحقك، نعم... لا بد من ذلك فأنت تستحق، ولا تستحق يوما أن أذل من أجلك... هذا عقابك... لقد اخترت الذل لكني أبدا لم أرضه لي... ستشكرني يوما عندما تبصر النور في أجساد الضعفاء وليس جسدي أنا... أنا الأقوى ولكن دون قلب..





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً