العدد 304 - الأحد 06 يوليو 2003م الموافق 06 جمادى الأولى 1424هـ

رحيل عميد الأدب العربي في السودان عبدالله الطيب

لندن - محمود الدّغيم 

تحديث: 12 مايو 2017

خبر مفجع لمن عرف عبدالله الطيب، ومفجع لمن سمع به، او انتهل من علومه ومعارفه، واستمتع بحديثه وشعره ونثره، وهكذا يكون رحيل الفرسان، ومنهم فارس النيل من منبعه إلى مصبه، وعميد الادب في السودان، الذي حانت منيته يوم الخميس 19 يونيو/حزيران 2003م.

نعم لقد رحل الرجل الفحل، وشيخ الكلام، واستاذ الاساتذة في اللغة العربية واللغة الانجليزية، وفقيد السودان والعرب المخلصين للغة الضاد وآدابها، وافادت الاخبار انه قبل الرحيل بيومين قد نقل إلى غرفة الانعاش بمستشفى «ساهرون» وفي تلك الغرفة سلم الروح في هدوء في الساعة الثامنة والنصف من يوم الخميس.

وعند الساعة الرابعة تماما نقل نعشه في ليلة الجمعة إلى مثواه الاخير، وامتدت ارتال الحزانى من منزله إلى المقبرة، وغصت بهم الشوارع الرئيسية، والازقة الفرعية، واختلط ابناء وبنات قبيلته وطلابه وطالباته واحباؤه، والكل يعزي الكل، فالخطب جلل والفقيد فقيد الجميع، فقيد الحاضرين والغائبين الذين يعرفون قدره، ويدركون حجم الفراغ الذي تركه في دنيا الآداب العربية والاعجمية.

كان لقاء عبدالله الطيب حلما بالنسبة إلي، فقد غادرت سورية إلى تركيا سنة 1983م، ونهلت من علوم مكتباتها العامرة بالمخطوطات شيئا كثيرا لم يتيسر لي في سورية ولبنان، ولما جاءت سنة 1978م نفتني الحكومة التركية إلى يوغوسلافيا السابقة، وحينذاك تعرفت على عدد من اطباء السلاح الطبي السوداني الذين كانوا يتخصصون في الاكاديمية الطبية العسكرية اليوغوسلافية في بلغراد، وكان الجميع يروون الكثير عن مآثر الاستاذ عبدالله الطيب مفخرة السودان والسودانيين بكل فئاتهم.

قامت علاقة طيبة بيني وبين الاخوة السودانيين في يوغوسلافيا فأحببت السودان لأجلهم، وتحدثنا في موضوعات المنافي والهجرة والتهجير، وقد اشاروا عليّ بالسفر إلى السودان، فحصلت على تأشيرة دخول من السفارة السودانية في بلغراد، وقصدت السودان بالطائرة الهولندية مرورا بسالونيك واثينا في اليونان ذهابا وايابا، وكان هدفي من السفر فتح مكتبة لبيع الكتب في السودان.

وبدأت التردد على مكتبات الخرطوم لاستطلاع الاسعار، وحركة البيع والشراء فلم اجدها مشجعة بسبب تتابع انهيار سعر صرف الجنيه السوداني. وذات يوم قصدت مكتبة الدار السودانية القريبة من الجامع الكبير، فإذا بها اضخم مكتبة شاهدتها من قبل ومن بعد في البلدان العربية، وهي تفوق مكتبات القاهرة وبيروت ودمشق وحلب، فأجنحة العرض والبيع توزعت في اربعة طوابق واسعة المساحة، وكان الشُّرَّاء والقراء منتشرون في اروقتها، وقد شكل بعضهم حلقات تتفاوت اعدادها ما يعيق حركة المرور بين رفوف الكتب، وذات يوم قصدت المكتبة فوجدت فيها حلقة لم ار مثلها من قبل، فاقتربت من الحلقة، وادركت ان فارسها المجلَّي هو عبدالله الطيب وكان مسترسلا في الحديث بتواضع العلماء ووقارهم، وخفة ظل تعطي الحديث حيوية نادرة تكللها هيبة العباقرة، ولباقة الشعراء.

لاحظ الطيب وجودي، وأدرك غربتي من ملامحي، فأشار إلي بيده فتقدمت نحوه، وسلمت عليه، فبادلني سلام معرفة وودّ، ولم نكن قد التقينا من قبل، ولكنني كنت اعرف عنه الكثير، وكنت معجبا بمواقفه المعادية لاتباع نحلة النثر الحديث المشعور، وما يسمى بالشعر الحر.

وقبل انفضاض الحلقة دعانا احد العاملين في المكتبة إلى كأس شاي سوداني في مكتب من مكاتب الدار السودانية، وهنالك جرى بيننا تعارف سريع، وأنشد الشيخ بعض ابياته التي تجسد التمازج بين الغابة والصحراء، وتصف بيئة سودانية عريقة خاصة، وأنشدته بعضا من شعري، فشجعني على المتابعة، ولما عرَّفته انني من منطقة معرة النعمان، فاجأني بقوله: ان موضوع اطروحته في شهادة الدكتوراه هو: «ابو العلاء المعري شاعرا» وراح يقص علي طرفا من شعر المعريين، وما قيل بهم وبالمعرة.

واستطرد بالحديث فذكر من مرّ بالمعرة كالبحتري الذي حمل إلى اهل المعرة توصية به من الشاعر ابي تمام الذي اقام بالمعرة سابقا، وحظي بإكرام الوفادة المعرية النادرة شأنه بذلك شأن المتنبي الذي مدح منطقة المعرة بشكل عام، وتغزل ببدويات المنطقة الواقعة ما بين معرة النعمان غربا وخراب الاندرين شرقا، فشاركته الحديث بما حفظت من تاريخ المعرة الذي كتبه محمد سليم الجندي في ثلاثة مجلدات، وما خبرته من سياحاتي في ريف المعرة وباديتها.

وتناقشنا في موضوع رحلة المعري إلى بغداد، وما لقيه من اهانة من قبل الشريف المرتضى لأن المعري دافع عن المتنبي في مجلس الشريف، وحدثته عن ريف منطقة معرة النعمان والبادية الشرقية، وكثرة ما في المنطقة من الشعراء الذين يقرضون الشعر الفصيح، والشعر العامي البدوي المسمى بالقصيد، الذي يرددونه على انغام الربابة، ولكنهم يلاقون اهمال الناشرين ووسائل الاعلام، فابتسم رحمه الله وقال: «اظن احوالهم في هذا كأحوال ابناء السودان»، فقلت له: «المسألة مشتركة بين السودان والبيضان في هذا الزمان». وبعد تلك الجلسة الممتعة افترقنا، وبودي لو يتكرر اللقاء لأغترف من درر بحر العلوم المتحرك رحمه الله.

ومرت الايام، وعدت إلى يوغوسلافيا، ثم سمح لي بالعودة إلى تركيا التي غادرتها ثانية سنة 1990م إلى لندن، وكان لي لقاء قصير مع عبدالله الطيب في جامعة لندن، وعجبت لقوة ذاكرته إذ لم ينس شيئا مما دار بيننا في ذلك اللقاء اليتيم في الخرطوم، وقد فاجأني بمتابعاته اذ اثنى على قصيدتي التي هجوت بها مهرجان الشعر في القاهرة سنة 1993م، وردد مطلعها بصوته الجهوري:

وقفت اسألُ نهرَ النيلِ ما الخبرُ؟؟

فقلت يا صاحب للشعر مؤتمرُ!!

وعلى رغم ضيق الوقت تطرق الطيب إلى معركة العقاد مع دعاة الحداثة في مصر، إذ ظهر العقاد في التلفزيون القومي لجمهورية مصر العربية وقال بصوت واضح وعال إلى حد ان يسمع الصم، وينبه الغافل: (الشعر الحر ده مش شعر، الشعر الحر ده كلام فارغ). ومعركة الطيب مع دعاة الحداثة في السودان، واصحاب مدرسة الشعر الحر وعلى رأسهم الشاعر محمد عبدالحي محمود (1944 - 1989م)، وعلي عبدالقيوم، مصطفى سند الذي تراجع عن تأييد الحداثة أخيرا، وقال: «انا ضد القصيدة النثرية ولا اعتبرها قصيدة من اساسه، على العموم من يريد ان يتماهى فليتماهى ولكني ضد هذا الشكل»، وقد كسب الطيب جولات في نصرة الشعر العربي الاصيل.

وتذاكرنا اساليب المحدثين في الهجوم على كل شيء، والدفاع عن اللاشيء، واستعرضنا هجماتهم على نزار قباني، ولاسيما بعد وفاته، وخلوّ الساحة من المدافعين في الكثير من الميادين، وبعد ذلك اللقاء افترقنا، وفاتتني سهرة سودانية لندنية اقيمت على شرف الطيب ولكن زودني معاوية ياسين بنسخة مسجلة لما ألقاه الراحل في تلك الامسية من قصائد رائعة. ومرّت السنون، وانا اتلقف اخبار الطيب من الاخوة السودانيين في لندن، حتى جاء نبأ وفاته وهو في سن الثانية والثمانين، وقد رحل وبقي عنوانه لمن يريد التعزية: الخرطوم - ص. ب: 3388 السودان.

ولد عبدالله الطيب في اليوم الثاني من شهر يونيو سنة 1921 في بلدة «التميراب» غرب مدينة الدامر «ولاية نهر النيل» ونشأ حول بريق «الخلوات» وبحسب التعبير السوداني: «الخلاوي» القرآنية بنيرانها المتقدة منذ اجيال، وما حولها من القراء الذين يتلقون تلاوة القرآن الكريم من افواه الرجال خلفا عن سلف، عملا بالمأثور، وقد ترعرع عبدالله في احضان بلدة رضعت حب آبائه واجداده «المجاذيب» في احضان نهر النيل الذي تحرسه نداءات المآذن منذ امد بعيد.

وتنقل عبدالله في تعليمه بين الكثير من مدن السودان فبعد دراسته في «الخلاوي» درس في مدارس كسلا والدامر وبربر، وكلية غردون التذكارية، والمدارس العليا (جامعة الخرطوم حاليا) ومعهد التربية ببخت الرضا. وتخرج في المدارس العليا بالخرطوم سنة 1942م، ومن زملائه في الدراسة بكلية «غردون» محمد الحسن ابوبكر، والطاهر عبدالرحمن، وفتح الرحمن عبدالقادر، واسماعيل نابري، ومحمد محمد حسن وغيرهم.

ويروى عن الشاعر الهادي آدم الذي كان يدرس في «بربر»: ان عبدالله جاء إلى المدرسة متأخرا، وهو لا يحمل قلما ليكتب به فانتهره «المستر براون» إلا ان الهادي آدم طلب منه ان يمنح عبدالله فرصة دقائق معدودة، وناوله الهادي قلما فكتب الموضوع المطلوب بلغة انجليزية اذهلت «المستر براون» الذي منح عبدالله الطيب المجذوب العلامة التامة في اللغة الانجليزية، وأوصى بتعليمه مجانا مع منحة دراسية لشدة اعجابه بذكائه وبلاغته بلغة شكسبير فضلا عن لغة الضاد.

وتخرج الطيب في مدرسة الآداب سنة 1942م، وعُيِّن مدرسا في بخت الرضا ولكنه لم يلبث ان استقال، وعمل في المدرسة الاهلية بأُمِّدُرمان منذ سنة 1943م وحتى سنة 1944م، ثم عمل بمدرسة التجارة سنة 1944م، وبالمدرسة الثانوية بأمدرمان سنة 1945م، وبمعهد التربية سنة 1946م.

ثم ارسل في بعثة إلى جامعة لندن، وحصل على شهادة المعادلة في البكالوريوس في الآداب من كلية الدراسات الشرقية والافريقية سنة 1948م. ثم حصل على الدكتوراه سنة 1951م، وكان موضوع اطروحته: «ابو العلاء شاعرا» ولم يكتف بالدرجة العلمية من بريطانيا بل تزوج بامرأته الانجليزية الوحيدة غرازيلدا «Grazelda»، التي عرّب السودانيون اسمها فقالوا: غرزديلا، وعاش واياها وفيين لبعضهما أكثر من نصف قرن من الزمن، وهو لم يتركها بلندن حينما عاد إلى السودان، على رغم انهما لم يرزقا اطفالا، بل اصطحبها معه، ووقف معها وقفة رجل شجاع نبيل في زمن كان فيه الزواج بالاجنبية مشكلة اجتماعية في بلاد العرب والمسلمين، وعاملها كرجل مضيف مضياف، وظل يرعاها ويحبها، ويعوض عليها ما فقدته في غربتها حتى آخر لحظة في حياته.

وبعد التخرج عمل الطيب محاضرا في كلية الدراسات الشرقية والافريقية في جامعة لندن ثم عاد إلى السودان، فعمل رئيسا لقسم اللغة العربية ومناهج المدارس المتوسطة في معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين في السودان، واستمر في ذلك العمل مدة ثلاث سنوات، ثم صار استاذا في قسم اللغة العربية في جامعة الخرطوم سنة 1956م، ثم صار عميدا لكلية الآداب فيها سنة 1961م.

انتقل إلى نيجيريا سنة 1964م، واشرف على انشاء كلية «Ado - Bayero» عبدالله «باييرو» في جامعة احمدو بيلو في مدينة كانو بنيجيريا، وكان اول عميد لها، ثم عاد إلى السودان، وعُيِّن مديرا لجامعة الخرطوم سنة 1974 - 1975م، ثم عين مديرا لجامعة جوبا في جنوب السودان سنة 1975 - 1976م، وعمل خلال الفترة من 1977 إلى 1986م استاذا للدراسات العليا في كلية الآداب والعلوم الانسانية في جامعة سيدي محمد بن عبدالله في مدينة فاس بالمغرب.

وكان عضوا في هيئة تحرير الموسوعة الافريقية في غانا، وعضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ سنة 1961م، ورئيسا لمجمع اللغة العربية في الخرطوم، ورئيسا لاتحاد الادباء السودانيين، كما كان استاذا زائرا لعدد من الجامعات العربية والافريقية والبريطانية.

صدرت لعبدالله الطيب عدة دواوين شعرية هي: اصداء النيل سنة 1957م، واللواء الظافر سنة 1968م، وسقط الزند الجديد سنة 1976م، وهذا الديوان يذكرنا بديوان سقط الزند لأبي العلاء المعري الذي اولع به عبدالله الطيب، واغاني الاصيل سنة 1976م، وأربع دمعات على رحاب السادات سنة 1978م، وصدرت له مسرحيات شعرية هي: زواج السمر سنة 1958م، والغرام المكنون سنة 1958م، وقيام الساعة سنة 1959م.

ومن دراساته الاكاديمية: «المرشد إلى فهم اشعار العرب»، و«من حقيبة الذكريات» و«القصيدة المادحة» و«مع ابي الطيب»، ومن اعماله الابداعية الاخرى: قصة «نوار القطن» التي صدرت سنة 1964م، وله عدد من الكتب التي تجمع بين الشعر والنثر مثل: «بين النير والنور» الذي صدر سنة 1970م، و«التماسة عزاء بين الشعراء» سنة 1970م، و«ذكرى صديقين» سنة 1987م.

وحصل الطيب على جائزة الملك فيصل العالمية للآداب مناصفة مع عزالدين اسماعيل الذي قال معلقا على المناصفة: «حاشا ان اتقاسمها مع استاذي» وكان ذلك في شهر مايو/أيار سنة 2000م، وسبب الحصول على الجائزة هو ما انجزه الطيب من دراسات ادبية ثرة، وما بذل من جهود علمية متميزة في مجالات البحث المتعددة ما اهله لنيل جائزة الملك فيصل في مجال (الدراسات التي تناولت النقد الادبي القديم عند العرب في تاريخه او كتبه او رجاله او قضاياه). وفي حقول الفكر والادب عموما، وذلك جراء ما تميزت به مؤلفاته من طابع اصيل





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً