«لقد علمتمونا كيف نحلق في الهواء كالطيور ونسبح في البحر كالاسماك، ولكنكم لا تعرفون بعد كيف تحيون على الارض!».
يستحضرني هذا الكلام لرجل هندي من اتباع المهاتها غاندي قاله للانجليز في العشرينات من القرن الماضي، وأنا أراقب ما يجري من مسلسل مأسوي للحياة اليومية في العراق في ظل الاحتلال الأميركي البريطاني له.
والحياة المأسوية هذه التي يمر بها العراق حاليا استثارت أو بدأت تستثير حتى اقرب الحلفاء والمتعاونين مع القوات الأميركية والبريطانية ممن ظلوا ينظّرون طوال الاشهر التي سبقت الحرب على العراق بأن السبيل الوحيد للاطاحة بالنظام السابق هو الحرب.
وعبرت عدة فصائل صديقة أو متعاونة أو متحالفة مع قوات الاحتلال عن قلقها واستيائها تجاه ما يحصل من حرق وتدمير وافقار منظم للدولة العراقية على مدى الأشهر الثلاثة التي اعقبت اسقاط نظام الرئيس صدام حسين من دون ان تجد «المبرر» الذي يجعل هذه القوات تقف متفرجة ازاء ما يحدث! هكذا بدأت تتساءل فصائل التحالف الكردي مع الاميركيين وكذلك بقية الفصائل العراقية العربية التي روجت يوما وبقناعة منقطعة النظير ان الاميركيين والبريطانيين انما يأتون إلى العراق بهدف «تحريره» من حكم الطاغية لافساح المجال للقوى العراقية المظلومة والمضطهدة لأخذ موقعها اللائق والمناسب والعادل في حكم عراق المستقبل!.
تقول صحيفة «العدالة» الناطقة باسم المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق الذي يترأسه محمد باقر الحكيم في عدد اخير لها مستغربة تصرف قوات الاحتلال ازاء ما يجري من حوادث مأسوية يوميا:
«... ان الأمل في تحسن أمني لم يعد واقعيا لأن قوات التحالف ليس لها هم إلا حماية نفسها وقد اتخذت اجراءات مبالغا فيها حتى بات المواطن يتساءل: هل ان واجبات هذه القوات حماية حياة الناس وممتلكاتهم أم ان على الناس ان يحموا الجنود الأميركيين المختبئين وراء اكياس الرمل والاسلاك الشائكة؟».
قال الكاتب الأميركي الكبير وصاحب كتاب «فلسفة الحضارة» الشهير ول ديورانت في كتاب له عن الاستعمار البريطاني للهند تحت عنوان «دفاع عن الهند»: «جئت الى الهند معجبا بالبريطانيين ومتعجبا من قدرتهم على اقرار النظام والسلم في بحار العالم لكل مسافر. وغادرت الهند شاعرا بأن فقرها الفظيع اتهام لا سبيل الى دفعه إلا لحكومتها الأجنبية... كان كارثة وجريمة... ذلك ان هذا يختلف تمام الاختلاف عن سيطرة المسلمين على الهند. فقد جاء هؤلاء ليبقوا واعتبروا الهند وطنهم وما اخذوه في صورة ضرائب واتاوة انفقوه في الهند فطوروا صناعاتها ومواردهم وجملوا ادبها وفنها، ولو ان البريطانيين حذوا حذوهم لكانت الهند اليوم أمة مزدهرة، لكن النهب الراهن استمر على نحو يتجاوز الاحتمال وعاما اثر عام مضى يدمر احد أعظم الشعوب التي عرفها التاريخ وأكثرها تهذيبا.
الأمر الرهيب هو ان هذا الفقر ليس بداية وانما هو نهاية، وهو لا يتناقص وانما يتفاقم، وانجلترا ليست تؤهل الهند للحكم الذاتي وانما هي تستنزفها حتى الموت».
كما قال إمام الجمعية التاريخية الأميركية في العام 1901م تشارلز فرانسيس ادامز عن الموضوع نفسه: «ليس هناك مثال واحد في التاريخ تم فيه رفع ما يسمى بعرق متدن أو مجتمع متدن في شخصيته أو جعله مستديما لذاته أو متمتعا بالحكم الذاتي او حتى وضعه على الطريق المفضي الى تلك النتيجة من خلال التبعية أو الالحاق... ويمكنني من دون مخاطرة تُذكر ان أؤكد ان هذه القاعدة ثابتة لا تتغير». ويقول محمد حسنين هيكل في آخر مقال له عن الحالة العراقية الراهنة تحت عنوان «صناعة القرار الأميركي»: «ليس اشد اثارة للملل في الفكر العربي المعاصر من هؤلاء الذين ينسبون كل وقائع التاريخ الى تدبير المؤامرة غير أولئك الذين يتوهمون ان الامبراطورية مبرة خيرية، وان الهيمنة دعوة هداية ورشد تنبع من البيت الابيض أو من وزارة الدفاع أو من مقار الشركات العملاقة أو من مراكز الابحاث...».
سبق لنا ان ناقشنا قيادات المعارضة العراقية (سابقا) لاسيما فصائل الاستدعاء الستة التي استدعتها واشنطن الى مقار البنتاغون ومراكز الابحاث والمخابرات والخارجية الأميركية على عجل في العام الماضي لتتخذ منهم جسرا «شرعيا» يبرر لها غزو العراق لأهداف باتت محل جدل ونقاش مثير حتى داخل كوادر هذه الفصائل، وقلنا لهم ان الادارة الأميركية ليست «جمعية خيرية» وان دعواتكم التبريرية لما يسميه اليوم هيكل بـ «الهيمنة العذراء» ليست سوى دعوات أو تحليلات أو «تقديرات مواقف» ساذجة ولا تنم عن عمق فهمكم لما يجري من مخطط اوسع بكثير من مجرد الاختلاف مع طاغية العراق، لكنهم كانوا يصرون على ان الادارة الأميركية الراهنة ليست سوى «طفاية حريق»! قررت التخلص من كل الحرائق الموجودة في المنطقة والتي كان لها اصلا ضلع في اشعالها أو تأجيج نارها في يوم من الايام.
اليوم، وبعد مضي ما يزيد على ثلاثة أشهر من حريق العراق المتواصل، يجدر بنا ان نتأمل جميعا وربما الفصائل العراقية الستة - المعارضة - سابقا بشكل اخص، حقيقة ما يعد لمنطقتنا من مشروع «نهب» طويل ليس بدايته «الفقر» - كما يقول الكاتب الأميركي الكبير «ديورانت» - بل هو «النهاية المتفاقمة فقرا».ولعلنا نختم بقولين، الأول لأحد اتباع الراحل الكبير غاندي الذي قال: «لو اننا تطلعنا الى الوراء لاكتشفنا ان السيطرة الأجنبية على الهند هي انتقام رهيب حل بساحة البلاد، انتقام اوقعته الحياة بأمة حاولت ان تنكر الحياة...».
والثاني لغاندي نفسه اذ يقول: «لو اننا، نحن الهنود، كان بوسعنا ان نبصق في تناسق، لشكّلنا بركة تبلغ من الضخامة حدا تغرق 300,000 انجليزي». والعبرة لمن يعتبر
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 303 - السبت 05 يوليو 2003م الموافق 05 جمادى الأولى 1424هـ