تظل ذرات الزمن وجزئياته ومركباته ومضاعفاته تترى في مسالكها، متفاعلة ومتكاملة فيما بينها خالقة الثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين، ومضاعفاتها القرون، حاملة في طياتها وبين مفاصلها في مختلف مراحلها ذكريات أمم، من حكومات وشعوب، وأفراد من رجال طبعوا بصماتهم على صفحات التاريخ خيرا يذكرون به، أو شرا يلعنون عليه.
على انه لا مهرب في كلتا الحالتين من تسجيل موقف اجلال وتقدير لرجالات الحالة الأولى، وازدراء لرجالات الحالة الثانية، مهما حاول البعض أن يحرفوا حقائق التاريخ الثابتة عن مواضعها ليقلبوا خانة الخير شرا والشر خيرا!!.
كانت حركة الآلة التاريخية وهي ماضية في أعنتها تسجل نهايات الأربعينات، وتهيئ لنقلة مرحلية لبدايات الخمسينات، وبين النهاية والبداية يجري العمل على قدم وساق لمد خط أنبوب النفط (التابلاين) انطلاقا من منطقة ابقيق عبر الصحراء السعودية الى البحر الأبيض المتوسط.
كانت هناك فرص عمل واسعة لمختلف الفئات العمالية من الطبقة الكادحة، من فنية وبسيطة مع إغراءات في الاجور محترمة لا يمكن مقاومة جذبها، مقارنة بواقع أجور (قوت من لا يموت) لدى شركة «بابكو»، اذ بدأت العمالة البحرينية المدربة تغادر البلاد أفرادا وجماعات للعمل في السعودية، ما سبب حالة من الارباك في سير العمل لدى بابكو دفع برئيسها آنذاك، والعهدة على الراوي، أن توجه الى مسئول في الجوازات يطلب منه وقف اعطاء مزيد من الجوازات للعمالة البحرينية المتجهة للعمل في المملكة العربية السعودية، لدى شركة «آي.بي.بي.آي - I.B.B.I» باكتل بلدر التعاونية العالمية المتعهدة لمد خط انبوب النفط التابلاين.
ومرة أخرى العهدة على الراوي، اذ يقال إن الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة رحمه الله تدخل في الأمر وتواجه مع مدير شركة بابكو في دائرة الجوازات، وجرى بينهما النقاش المستخلص معناه في الآتي: «اذا كانت الضرورة المصلحية بالنسبة لشركة بابكو والمجتمع البحريني، حكومة وشعبا، تقتضي المحافظة على العمال البحرينيين كعمال وحيدين في البحرين خاصة والمنطقة عامة، مدربون على أرقى المستويات، وانه لا يوجد وقتها منافس لهم، فان الطريقة السليمة للاحتفاظ بهم، هو الدخول في منافسة شريفة في مساواة قيمة الرواتب والأجور، وليس باتخاذ القرارات الفوقية ذات الميزة القهرية، خلف الكواليس وسط الدهاليز المظلمة؟».
إنه في تقديراتنا المستخلصة في اطار التحليل المنطقي لموقف الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، أنه والحق يقال، قد سطر أرقى معاني المواطنية الصادقة، وثبت مفهوم العلاقات الاجتماعية التكاملية بأرقى مفاهيمها العملية والتطبيقية، بين (القمة والقاعدة) بين منصب الحاكم الذي ليس هو بعيدا عنه، ولكنه يلامس محيطه كخط تماس مؤثر في تقدير الحسابات النهائية بين الأخذ والعطاء.
اننا لسنا بصدد الدخول في حلبة صراع التمييز بين الماضي الصادق الذي مثّله الشيخ عبدالله والحاضر المراوغ، ذي التصريحات الاستهلاكية التي فضحت تفجيرات مدافعها رؤوس طبقتنا العاملة وطلائعها المثقفة على مدى يقرب من الثلاثين عاما منذ حل المجلس الوطني العام 1975 والانفراد بدخل الطفرة النفطية، ولازالت الامور متعثرة ذلك ان وضوح التمايز ليس تثبيته بحاجة الى اجتهاداتنا المتواضعة، فالشمس تشرق كل يوم، تجلي النعاس عن العيون، والبحر يفعل جزره ويخلف الزبد السقيم!.
وفي سياق الارتباط والتواصل وسرد أحداث التاريخ بامانة وصدق فيما يتعلق بالمواقف الشجاعة الاصيلة المرتبطة بالدفاع عن الطبقة العاملة البحرينية وحقوقها المشروعة والوقوف بجانب كفاح الشعب البحريني، المرتبطة بمواقف الشيخ عبدالله عندما وضع نفسه في مرحلة تاريخية اخرى، تطلبت تسجيل موقف مبدئي العام 1965، اذ كانت الرياح وقتها تزمجر، في مختلف أجواء مناطق البحرين، وكان أقواها زمجرة، وأعنفها قصفا، وأشدها ردحا في فريق محطة السيارات القديمة «استيشن» المعروفة بـ «بورت سعيد»، اذ أصحاب الزنود السمر حاملة الاحمال الثقيلة مثلما «اهديب» قد حمل من أمثال مفجر انتفاضة العام 1965 «يوسف عبدالملك» الذي عاش ومات مثلما عاش ومات «جمال حمدان» مع الفارق وعلي سفنديار، والفقيد عبدالرحمن هاشم، وعلي خلف، والفقيد ربيعه، الذي شرف بمساهماته وتضحياته النضالية حركة التحرر الوطني، وأثراها بعطائه الجم، على رغم بساطته التي تتجلى في مهنته ووسيلة كسبه العيش الشريف كحمَّار بعيدا عن السطو الفاضح في زمن المفضوحين، وكذلك الفقيد عبدالرحمن جيكه سائق سيارة تاكسي وأحد المؤسسين لصندوق التأمين على المركبات.
على أن تلك النماذج الفردية ليسوا إلا أمثالا لآلاف الشرفاء المناضلين في المحرق، وعشرات الآلاف في مختلف ساحات الردح في عموم البحرين بقراها ومدنها، هؤلاء الشرفاء ممن مات بعضهم في هول الصقيع، على أن ما يهم الوقوف عنده في هذا السرد التاريخي المتواصل هو أنه وكنتيجة حتمية لردة الفعل على قوة الردحة المحرقية العمالية البالغة القسوة والشدة في العام 1965، كان الموقف الامني يفرض على ذوي الحاجة الأمنية العمل على زعزعة الارض تحت أقدام المحرقيين بمثل زعزعة ارضية (عين عذاري) تحت وطأة كتلتها المائية، وعلى العاقل ان يتمعن ويفهم معنى سياقة مثل القرين بالمقارن على رغم الفجوة الزمنية التاريخية الطويلة.
ومرة ثالثة، وتبقى العهدة على الرواي، انه طلب من الشيخ عبدالله مغادرة المحرق وكان جوابه: «إني محرقي فيها عشت، وفي محرقيتي سأموت»،
وقد ثبَّت رحمه الله هذا الموقف المبدئي، أن قبر الشيخ عبدالله قائم في المقبرة المحرقية في الزاوية الجنوبية الغربية، متميز بشاهديه المنتصبين بارتفاعهما الباسقين تميز مواقفه الاصيلة التي لا تقبل التذبذب ولا ترى في الوعود قانونا ملزما في ظل اعتناق المبدأ الصهيوني المبني على أن الغاية تبرر الوسيلة.
ومع كل ذلك ستبقى عيوننا وإحساسنا وشعورنا أمورا مبدئية منصبَّة على تاريخ عمالتنا الوطنية، وعن هذا الموضوع سنلتقي
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 303 - السبت 05 يوليو 2003م الموافق 05 جمادى الأولى 1424هـ