العدد 303 - السبت 05 يوليو 2003م الموافق 05 جمادى الأولى 1424هـ

«معجنات إيطالية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في العام 1996 أجرت مؤسسة استطلاع تجربة على مدى اهتمام واطلاع الشعب الأميركي على السياسة الخارجية فوضعت سلسلة أسئلة بسيطة وعامة يعرفها كل من يقرأ صحيفة يومية. فجاءت الأجوبة كارثية حتى تلك التي لها صلة بأقرب الدول إلى الولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك أو أقرب حلفاء أميركا مثل أوروبا.

تبين من الاستطلاع أن الشعب الأميركي غير مكترث بالعالم ولا تهمه معرفة العواصم والتواريخ والجغرافيا. مع ذلك جاءت بعض الأجوبة ظريفة. مثلا شمل الاستطلاع أسئلة عن منظمة الأمم المتحدة وأمينها العام آنذاك بطرس غالي، وأجابت سيدة نيويوركية عن سؤال: «من هو بطرس بطرس غالي» فقالت من دون تردد: «إنه نوع من المعجنات الإيطالية».

أعجب المستطلعون بجواب السيدة، فهي إذا لم تعرف من هو «بطرس بطرس غالي» فهي على الأقل سمعت بشيء اسمه «المعجنات الإيطالية». وهذا دليل على صلة ما بين الداخل الأميركي والعالم الخارجي.

الحديث عن «المعجنات الإيطالية» هو في النهاية إشارة إلى مسألة سياسية تقول إن الرأي العام الأميركي لا يأبه كثيرا بالعالم ومصيره وهو لا يهتم إلا حين تتضرر مصالحه أو يقال له إن هناك «قوة ما» رهيبة مخيفة تريد الانقضاض عليه لتعطيل حياته اليومية. فالرأي العام الأميركي من أبسط الشعوب وأقل الناس معرفة بالسياسة وكيف تصنع؟ ومن هو المستفيد منها وكيف تُدار؟

كل هذه الأسئلة لا يكترث بها الرأي العام الأميركي، لذلك كان وعلى الدوام مطية سهلة للأحزاب واللوبيات التي تخصصت في صنع الرأي وإدارته في الاتجاه الذي يريده «الرئيس» أو «الإدارة». فالسياسة في الولايات المتحدة تصنعها الأجهزة والمؤسسات وأصحاب الاختصاص في هذا الشأن. أما الناس فعليهم الأكل والشرب ودفع الضريبة والعمل ليل نهار والتصويت مرة كل أربع سنوات لاختيار الكونغرس (النواب) ومجالس الولايات (الشيوخ) والرئيس الجديد. وبعدها تتحول السياسة إلى أجهزة تسيطر عليها قبضة من أصحاب المصالح والنفوذ (شركات ولوبيات).

قلة اهتمام الشعب الأميركي بالسياسة لا تقتصر على الرأي العام فقط، فهناك أيضا الكثير من أعضاء الكونغرس (النواب والشيوخ) وحكام الولايات وحتى رؤساء أميركا لا يعرفون السياسة ولا يهتمون بها. وحين يصبحون في مواقع المسئولية يلجأ بعضهم إلى ترك مسألة القرارات إلى الأجهزة والمؤسسات. فالدولة الأميركية دولة مؤسسات حتى لو كان الرئيس يتمتع بصلاحيات استثنائية.

يقال مثلا عن الرئيس رونالد ريغان (حكم 8 سنوات) إنه كان ينام في اجتماعات البيت الأبيض وأحيانا كان يغادر مكتبه من كثرة النعاس تاركا القرار لمجموعة من المستشارين تتناحر يوميا لإقناع الرئيس بصواب هذا الرأي وخطأ ذاك. وحين كان الرئيس ريغان يحتار في اتخاذ القرار كان يتصل بعرافة (ساحرة وعارفة بالغيب) تسكن في كاليفورنيا يسألها رأيها في القرار الأنسب.

مع ذلك يقال إن فترة ريغان كانت الأفضل لأنه كان قليل النقاش وقدرته على الاستيعاب محدودة. ويقال أيضا إن ريغان هو الرئيس الأكثر شعبية في أميركا وانه في حال ترشح الآن للمرة الثالثة (وهو في حاله إذ دخل مرحلة من الخرف قبل 4 سنوات) سيفوز على غيره من المترشحين.

أميركا إذا مسألة مختلفة. فهي دولة مؤسسات والرأي العام هو مجرد «شاهد زور» على قرارات تتخذها الأجهزة واللوبيات والكتلة الحزبية المسيطرة باسمه ونيابة عنه.

مثلا يقال عن جورج بوش الأب إنه كان الرئيس الأميركي الأكثر اطلاعا على السياسة الدولية بحكم رئاسته سابقا للمخابرات الأميركية (سي آي إيه). وعلى رغم ذلك خاض حربه الخاصة ضد صدام حسين في العام 1990-1991 وسقط في انتخابات 1992 وهو لا يعرف كيف يلفظ كلمة «صدام»... إذ استمر على رغم كل ملاحظات التلقين التي تلقاها يلفظ اسم الرئيس العراقي السابق «صادم» حسين.

أما ابنه (جورج بوش الثاني) فحدِّث عنه ولا حرج. فسجله الشخصي كارثة على كل المستويات فهو فاشل في كل المسئوليات التي تحملها وهو متهم بتناول المخدرات والإفراط في شرب الكحول ودخل مرارا المستشفيات لتلقي العلاج، وهو أيضا مُلاحق بتهم التسبب في إفلاس شركات نفط ومقاولات وتدخل والده (في فترة رئاسته) لإنقاذ ابنه والتغطية على سمعته.

ومع ذلك فأميركا هي أميركا وهي دولة مؤسسات. فهذا الشاب أصبح رئيسا للولايات المتحدة وهو لا يعرف الشيء الكثير عن العالم وهو معجب فقط بشخصية ارييل شارون وحروب «إسرائيل» ضد العرب. فأميركا دولة مؤسسات ولأنها كذلك نجح بوش الابن في انتخابات فيها الكثير من الشبهات والاتهامات بالتزوير والتلاعب. فمنافسه الديمقراطي على الرئاسة آل غور نال حوالي مليون صوت أكثر منه في الانتخابات. ولكن بوش فاز لأنه حصد أكثر منه في مقاعد الولايات (271 ضد 266 مقعدا). أميركا دولة دستور ودستورها ينص على أن مقاعد الولايات تقرر الرئيس لا عدد الأصوات.

هذا الرئيس (رقمه 43 في تاريخ الولايات المتحدة) وقف في 4 يوليو/ تموز الجاري يلقي خطابه بمناسبة استقلال أميركا في العام 1776. آنذاك كانت أميركا تتألف من 13 ولاية فقط وهي الآن 50 ولاية بعد مرور أكثر من 200 سنة على تأسيسها رسميا. وقف هذا الرئيس يعطي الدروس والمواعظ للشعب الأميركي مكثرا الكلام عن دور أميركا في تحرير الشعوب ومساعدة العالم على نشر مبادئ الحرية واحترام حقوق الإنسان. وصدقه الرأي العام وصفق له. فالشعب الأميركي لم يسمع بالشركات «المتعددة الجنسية» ولا بالاحتكارات النفطية والصناعات العسكرية.

كذلك الرأي العام الأميركي لا يعرف الكثير عن العالم، ولكن العالم يعرف الكثير عن الولايات المتحدة. والخطاب الموجه من الرئيس إلى الداخل لإظهار مدى عظمة أميركا في العالم لا يختلف في معناه بالنسبة إلى شعوب الكرة الأرضية المستضعفة عن جواب تلك السيدة النيويوركية: خطاب بوش مجرد «معجنات إيطالية»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 303 - السبت 05 يوليو 2003م الموافق 05 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً