طاقة فكرية هائلة، وفهم للإسلام دقيق، وصبر عظيم على تحمل الأذى في سبيل الدين والوطن... هذه كانت عدة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في التصدي لطرفين متناقضين: طرف معادٍ للإسلام متمثل في قوى العلمانية واللائكية والفرنكفونية، وطرف منتسب للإسلام ضره أكثر من نفعه يتمثل في أصحاب الفكر التكفيري الدموي. وكلا الطرفين مسئول عن المأساة المروعة التي تعيشها الجزائر الحبيبة.
بطـاقة حيـاة
ولد الشيخ محفوظ نحناح في 28 يناير/ كانون الثاني 1942 بمدينة البليدة، الى الجنوب من الجزائر العاصمة، إذ نشأ في أسرة محافظة. تعلم دروسه في المدرسة الإصلاحية التي أنشأتها الحركة الوطنية، وهي المدرسة التي كانت تمثل رمز المقاومة والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية ضد محاولات الانسلاخ والتغريب. شارك في ثورة التحرير المباركة وهو في ريعان شبابه. وقد أكمل مراحل التعليم الابتدائية والثانوية والجامعية في الجزائر، إذ التحق بكلية الآداب واللغة العربية بجامعة الجزائر سنة 1966، وعمل مدرسا في المدارس الابتدائية، ثم أستاذا في كلية العلوم الإسلامية، إذ قام بتدريس مادتي التفسير والسيرة النبوية. وقد اشتغل في حقل الدعوة الإسلامية لأكثر من ثلاثين عاما، في مقابل المد الثوري الاشتراكي ونشر الثقافة الفرنسية، وكان يعتبر من أشد معارضي التوجه الماركسي والفرنكفوني. شغل منصب مدير مركز التعريب في الجامعة المركزية بالعاصمة. وفي سنة 1975 سُجن بتهمة تدبير انقلاب ضد نظام حكم الرئيس هواري بومدين، إذ عارض فرض النظام الاشتراكي بالقوة على المجتمع الجزائري باعتباره خيارا لا يتماشى مع مقومات الشعب الجزائري العربي المسلم، ودعا إلى توسيع الحريات السياسية والاقتصادية، وحكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة، وكان السجن فرصة ثمينة للاستزادة من العلم من جهة، والمراجعة للطروحات الفكرية والسياسية من جهة أخرى، وقد تحول على يديه خلق كثير من السجناء من الانحرافات السلوكية وأصبحوا نماذج حسنة. وقد أسس جمعية «الإرشاد والإصلاح» في سنة 1988 هو ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني، الذي اغتالته الجماعة الإسلامية المسلحة. ثم أنشأ حزبا سياسيا تحت اسم «حركة المجتمع الإسلامي»، وانتخب أول رئيس له في 30 مايو/ أيار 1991. وقد تغير اسم الحركة فيما بعد إلى «حركة مجتمع السلم». ترشح الشيخ نحناح للانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، وحصل على المركز الثاني بأكثر من ثلاثة ملايين صوت، بحسب النتائج «الرسمية المعلنة»، وتعتبر هذه الانتخابات أول انتخابات رئاسية شارك فيها الإسلاميون في العالم الإسلامي بمرشح يحمل هذا التوجه. ولكنه منع من الترشح مرة ثانية للانتخابات الرئاسية التي جرت العام 1999 بحجة أنه لم يكن أحد مجاهدي حرب التحرير !!
توفي رحمه الله عن 61 عاما إثر إصابته بسرطان الدم، وتم تشييع جثمانه بعد ظهر الجمعة الموافق 20/6/2003 إلى مقبرة العالية بالجزائر العاصمة بحضور أكثر من ثمانين ألف مشيع.
حركـة مجتمـع السـلم
حصلت الحركة على الاعتراف بها كحزب رسمي في فبراير/ شباط 1991، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر من أقدم الجمعيات الإسلامية نشاطا في الجزائر في مرحلة الاستقلال، إذ ترجع بداياتها الأولى إلى مطلع السبعينات. وللحركة أنصار ومؤيدون في مؤسسات القطاع العام والمصالح الحكومية، وبين رجال التربية والتعليم، وفي القرى والأرياف. ولعل السبب في سرعة اتساع قاعدة المؤيدين يرجع في جانب أساسي منه إلى خصائص المنهج الفكري والخطاب السياسي الذي تمارسه وتدعو إليه. كما يرجع في جانب آخر إلى شخصية الشيخ نحناح رحمه الله.
خاضت الحركة الانتخابات النيابية العام الماضي في ظل أجواء تردد فيها الكثير من الكلام عن نزاهة هذه الانتخابات، وحازت المركز الرابع بحسب الآتي: جبهة التحرير الوطني (199 مقعدا)، التجمع الوطني الديمقراطي (48 مقعدا)، حركة الإصلاح الوطني (43 مقعدا)، حركة مجتمع السلم (38 مقعدا)
هذا، وتعتبر حركة مجتمع السلم منذ مطلع الثمانينات هي المعبّر عن حركة الإخوان المسلمين في الجزائر، ومن ثم فهي تتسم بسماتها الأساسية مثل الاعتدال والوسطية والتجديد، والفهم الشامل للإسلام، واتساع الأفق، والالتزام بالضوابط الشرعية، والتدرج في عملية الإصلاح والتغيير.
منهـج سـديـد
كان الشيخ نحناح يرى أن المشاركة في قاعدة الحكم أولى من الروح الانسحابية أو المعارضة الراديكالية، وقد بينت الحوادث صواب هذا الاختيار... ولكن في الوقت نفسه، كان له موقف واضح من وقف المسار الانتخابي في بداية التسعينات، إذ كان يرى أن خطأ الحكومة الكبير لا يعالج بخطأ حمل السلاح وجز الرقاب وثقافة التدمير والحقد. وأدان العنف والإرهاب وكل مظاهر الغلو في الدين منذ بدايات الحوادث المأسوية في الجزائر، وكرس جهوده للدفاع عن قيم الوسطية والاعتدال، وقد دفعت حركته ضريبة غالية، أهمها اغتيال مئات من أفراد ومحبي الحركة، وعلى رأسهم الرجل الثاني في حركة مجتمع السلم الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله.
كان نحناح يرى أن البراعة في الشئون المدنية والمعارف الكونية والعلوم الحديثة ضرورة ملحّة لبناء الأمة وإقامة الحضارة، وكان يقول: «إن الذين تشغلهم النوافل عن إتقان صناعة أو زراعة أو تجارة أو علم لا يستحقون الاحترام! والذين تزداد خبراتهم بفنون الحياة المختلفة إنما يتجاوبون مع منطق دينهم، ونحن نريد بناء حياتنا على قواعد رسالتنا العتيدة».
هذا هو الشيخ محفوظ نحناح، الذي كرس حياته في سبيل دينه ووطنه، واجتهد خلال مسيرته الدعوية والفكرية والسياسية الطويلة، فنجح في كثير من الأحيان، وأخفق في بعض الأحيان إذ لم يكن يدّعي العصمة، ولكنه ظل حتى آخر رمق من حياته رجل الفكرة والعقيدة، ورجل المواقف الصعبة والأزمات الجسام، وصاحب البصيرة النفاذة والرؤية الصادقة
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 302 - الجمعة 04 يوليو 2003م الموافق 04 جمادى الأولى 1424هـ