تتعالى صيحات الرفض والاتهام والاستياء من بعض شباب هذا الجيل متهمة إياه بالسلبية واللامبالاة والتهور والاندفاع، بل قد لا يتورّع البعض عن وصمهم بالجهل والتخلف الفكري والتفاهة والجري اللاهث وراء اشباع نزواتهم المجنونة ورغباتهم اللامسئولة معتمدين في ذلك على ما يوفره لهم ذووهم من مصروف وما يستطيعون توفيره لأنفسهم من بيع هذا وشراء ذاك. وإنني على ثقة تامة بأن هذه الصفات خطر يهدد مستقبل أولادنا إذ أصبحت واضحة وصريحة وعلى جميع المستويات إنها عار يطارد القيم والأخلاق والتربية. ويقرع أجراس التحدي والاصرار على الضياع والانحراف. فهم يسخرون من الكفاح من أجل الحياة والمثابرة من أجل تحقيق الأهداف السامية، وليس لديهم القدرة على تخطي الصعاب، ولا يستطيعون تحمل مسئولياتهم إذ ينهارون أمام أول مشكلة تصادفهم فقد تعودوا على التكاسل والتواكل والاستسلام للأمر الواقع، وحملوا مفاهيم مغايرة ومبادئ باطلة وشعارات جوفاء، بل قد يلجأ البعض منهم إلى التمادي في الغي والاستهتار بتدمير نفسه بتعاطي المخدرات بشتى أنواعها أو بالاستغراق في مشاهدة وممارسة كل رخيص وتافه وسطحي فارغ المحتوى أجوف المعنى من دون عمق أدبي أو ثقافي أو أخلاقي.

ولكن لنقف بإنصاف وتعقل صادقين... لنتذكر كيف تربى رجال الأمس؟ وكيف تغنى آباؤهم برجولتهم وقدرتهم على تحمل المسئوليات وسعيهم وراء الرزق والتحصيل منذ الصغر؟ ولنتذكر مساندتهم لآبائهم في تحمل أعباء الحياة بايجابية ومثابرة وعمل متواصل مع إحساسهم القوي بضرورة السعي الى تحقيق كل ما من شأنه ان يجعل منهم رجالا أقوياء أشداء يتجاوزون الصعاب والشدائد والمحن، ويلبون نداء الواجب في أية لحظة؟

والسؤال الآن: هل نحمّل شباب هذا الجيل ما وصلوا إليه من انهيار وتدنٍ سلوكي وأخلاقي لامسئول؟ أم إن من واجبنا إشراك الآباء والأمهات، وتحميلهم الذنب الأكبر فيما وصل إليه الأبناء في أسر تغيب عنها السلطة الوالدية وتحمّل الأم بمفردها عناء التربية والتوجيه، هذا ان لم تكن هي الأخرى أما عاملة. فكلنا يعرف أن الأم تغلب عليها العاطفة والتدليل المبالغ فيهما، والطامة الكبرى إذا كان لها دخل مستقل فهي تعطي للأبناء من دون حساب تعويضا لهم عن غيابها الاضطراري لساعات وترك رعايتهم للخادمة.

إن الوفرة المالية في أيدي الأبناء باعتقادي هي أول طريق التخبط، وعندما أقول «الأم» لا أقصد بذلك عجزها عن التربية وإنما لتشعّب وظائفها وتعددها وبسبب مشغولياتها فقدت التركيز على تربية الأبناء. في وقت يكتفي فيه الأب بوجوده الاقتصادي والجسدي بينهم، والفرق بين وجوده المعنوي ووجوده الجسدي شاسع جدا لأنه بينهم بصورته فقط من دون الاحساس الوجداني والفكري بهمومهم وقضاياهم، ومن دون أن يتجاوب معهم في المشاعر ويتفاهم معهم في أمور قد لا يفهمها غيره، وطبعا هذا يضر بهم كثيرا ويسلب ارادتهم لأنهم يحتاجون إلى وجوده المعنوي الذي يعني تجاوب الحس وفيض المشاعر المتبادل والحوار الفكري الثري والحب الصادق واحترام الرأي والرأي الآخر...

فهذا الوجود له أثر كبير وحيوي للغاية في العملية التربوية للأبناء، ولا أقصد بذلك أن يترك الآباء أعمالهم ويجلسون في البيوت لادارة عملياتهم التربوية فوجودهم لا يعني الكم الزمني، ولكن الكيف الفكري والروحي والوجداني. فعلى كل أب يعاني ويتألم من سلبية أو اهمال أولاده أو من أحدهم أن يسأل نفسه: هل كنت موجودا في المنزل أعطي لأولادي وزوجتي وبيتي من وجودي معنويا ما يكفيهم حتى وان كان لوقت قصير على الأقل في فترة مراهقة الأولاد؟ تلك الفترة الحاسمة الخطرة إذ يجمع الأب في سلطته مشاعر الحب والصداقة إلى جانب الحزم والحسم في مواجهة رعونة الأبناء، ويقدم لهم مساعدته لتجاوز هذه الفترة الحرجة بسلام وأمن من دون أن تترك آثارا سلبية نفسية قد تلازمهم بقية حياتهم