عدد من الجمعيات السياسية اجتمعت يوم أمس الأول لمناقشة أولويات المرحلة المقبلة بالنسبة إلى العمل السياسي في البلاد، وتداول المجتمعون قضايا كثيرة تهم الوطن وتهم المسئولين في الجمعيات السياسية.
بادئ ذي بدء، إن الاجتماع لتداول الأفكار بعد فترة مرهقة للجميع يعتبر انجازا بحد ذاته. ومهما قيل عن اختلاف الآراء فإن تداول الأفكار ومصارحة الذات بها بالطريقة التي تم طرحها هو الأسلوب الأفضل لمنع الاحتقان. فقد ظهرت في الفترة الأخيرة مؤشرات غير حسنة من الجانبين الرسمي والشعبي تؤشر الى التضييق من جانب والتصعيد من جانب آخر.
إن المعادلة التي كانت مطروحة على الساحة بدأت تتغير قليلا. ففي حديث الجمعيات السياسية يوجد تنوع وتركيز على قضايا دستورية وحياتية يومية. وهناك وعي لدى عدد من مسئولي الجمعيات بأن الناس سيؤيدون الذين يعالجون قضاياهم اليومية الملحة والتي لا يمكن حصرها أو إبعادها أو تأخيرها بسبب طرح أولوية الحديث عن الدستور.
إن ما خرجت به الجمعيات السياسية يعتبر أكثر ايجابية مما توقع البعض، وهذا أمر طبيعي عندما تجتمع العقول. ولكن يؤخذ على الجمعيات استبعادها لنواب فاعلين على الساحة ويخدمون القضايا الملحة لحياة الناس اليومية. واذا كان أحد الأهداف فتح قنوات حوار مع السلطة، فإن النواب قد يوفرون واحدة من هذه القنوات.
ثم إن الجمعيات المعارضة التي اجتمعت ليست هي الوحيدة في الساحة حاليا. فهناك الجمعيات المشاركة وبعضها لها أثر على الشارع العام ولها ثقلها الكبير، وخصوصا بعد انسحاب جمعيات كبرى من الانتخابات. فانسحاب «الوفاق»، مثلا، عزز من قوة ونفوذ الجمعيات السياسية التي دخلت المجلس النيابي لدى الشارع البحريني.
إن الحوارات الهادئة من شأنها تحريك المياه الراكدة ايجابيا، وبعكس ذلك، الحوارات الصاخبة التي تعلو فيها اللغة الحادة. فبعض الأطياف تجد لها فرصة لإثبات ذاتها من خلال ادعاء «النقاء السياسي» والفهم «الصحيح» لنفسها، وان الآخرين ليسوا مثلها نقاء وصلابة... ومثل هذه اللغة تتزايد لملء الشعور بالاحباط.
غير أنه ومهما كانت المستويات المطروحة في الحوار فإن الواجب هو السماح لكل الآراء بالانطلاق لتعبر عن أصحابها، ومادام الجميع التزم الأساليب السلمية فإن النتيجة تكون أكثر ايجابية.
وما يجري من حوارات في البحرين يذكرني بحديث لرئيس الوزراء البريطاني الذي وصل الى الحكم بغالبية ساحقة في العام 1997 إلى درجة لم يتوقعها أحد سواء من اليمين أو اليسار. حينها كان يقول إن مثل ذلك النصر كان بالامكان تحقيقه قبل مئة عام، إلا أن السبب في عدم انجازه هو انشغال الحركة الاشتراكية البريطانية بالهتافات والشعارات والخلافات الكلامية أكثر من ضبطها أجندتها العملية.
حركة المعارضة البحرينية كانت من أهم الحركات العربية في التسعينات، وقد أثبتت جدارتها في ايصال صوتها إلى جميع أنحاء العالم على اساس توافق واجماع وطني وأجندة واضحة. كما استطاعت تجاوز كثير من العقبات الفكرية والمذهبية وحققت بذلك كثيرا من أهدافها...
اليوم هناك خلط في الأوراق، وهناك أطراف كثيرة لم تكن ظاهرة على السطح ولها دورها المؤثر والمباشر حاليا. هناك ايضا علماء الدين الذين يمتلكون النفوذ الواسع في الشارع، وهؤلاء بعيدون عن النقاشات الدائرة بين الجمعيات السياسية. ولكن فيما لو قررت الجمعيات قرارا يخالف رأي علماء الدين بوضوح في مسألة ما، فإن هؤلاء العلماء سيتحركون ويُنهون صمتهم وبإمكانهم تعطيل أي تحرك لا يوافقون عليه. ولذلك فإن على الجمعيات السياسية التي تعتمد على القاعدة الجماهيرية التي يؤثر فيها علماء الدين أن تكون أكثر وضوحا مع أعضائها ومؤيديها بشأن استراتيجيتها. وإذا كانت تعلم حدود ما تستطيع القيام به قبل أن تتحرك المؤسسة الدينية فإن عليها ايضاح ذلك لجماهيرها وعدم ترك الأمر مبهما كما هي الحال الآن.
الأجندة السياسية لا يمسك بها عدد محدود من المتصدين للساحة كما كان الحال في التسعينات. فآنذاك كان المتصدون قليلين وهم الذين كانوا على استعداد لدخول السجون وتذوق عذاب المنافي، وكان بإمكان تلك الأطراف القليلة الدخول الى أهداف محددة ووسائل محددة. أما اليوم فإن الوضع يختلف تماما؛ فالجمعيات المعارضة في وضع لا تحسد عليه فهي لا تستطيع التراجع عن شعارات رفعتها وأصرت عليها، وفي الوقت ذاته تعلم محدودية ما تستطيع القيام به لكل الأسباب المذكورة أعلاه.
إن الوضع يشبه الطريق المسدود، والاجتماع الاخير يكمن عند نهاية الطريق، ومحاولة فتح الطريق المسدود لها سقف وتكاليف ومخاطرات... هذا - على ما أعتقد - واضح لدى مسئولي الجمعيات المعارضة، ولكن عليهم أن يوضحوه أكثر لجماهيرهم لكي لا يزداد الضغط في اتجاه مسدود.
الخروج من مأزق البرامج والشعارات يتطلب تغييرا في الأجندة، ولكن هذا التغيير يحتاج الى حوارات مستمرة، وما حصل بداية حسنة نأمل استمرارها خدمة للصالح العام وأملا في إشراك الذين ضحوا كثيرا في السنوات الماضية في الشأن العام بصورة أكثر تأثيرا وأكثر إيجابية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 302 - الجمعة 04 يوليو 2003م الموافق 04 جمادى الأولى 1424هـ