وضعت أفكار فرق المعتزلة الفقهاء والعلماء والقضاة والأئمة في موقف حرج حين طرحت «المتكلمة» الكثير من التحديات والأسئلة الاستفزازية التي وصلت الى حد الانتقاص من قدرة الصانع الكلية والشاملة.
كان على الشيوخ الرد على الأسئلة والدخول في سجالات دقيقة من الصعب الاجابة عن دلالاتها من دون الذهاب بعيدا في التفسير والتأويل والاستنتاج والاستبطان. وكان النقاش يتركز على الذات الإلهية وقدرة الخالق على تدبير شئون عبيده.
كان على رجال الأمة الاجابة عن أسئلة جديدة لها صلة بحدود الصانع وامكانات الانسان وأين ينتهي دور الأول ليبدأ دور الثاني. وبسبب تلك التحديات التي جاءت من أكثر من جهة ومكان كان لابد من تحديد أدوات التحليل (المناهج) وحقول المعرفة (ميدان البحث) والخلاصات (النتائج).
آنذاك لم تكن المذاهب الإسلامية المعروفة في أيامنا قد تبلورت. فالأمة في ذاك الوقت (المئة الأولى للهجري) لم تكن خلافاتها السياسية تمنهجت فقهيا. فالمذاهب الإسلامية تشكلت كمدارس مستقلة في المئة الثانية للهجرة... والمعتزلة في هذا المعنى الزمني كانت سابقة تاريخيا على المذاهب السنية والشيعية. فالأئمة الكبار الذين وضعوا قواعد المذاهب (فقه الأصول والمعاملات) ونظموها في أطر منهجية ومعرفية عاشوا في فترة لاحقة على تأسيس الاعتزال.
المذهب الوحيد الذي ظهرت بداياته الأولى في فترة تأسيس الفرقة الأولى للمعتزلة كانت مدرسة الإمام الأوزاعي. ومدرسة الإمام الأوزاعي كانت أقرب الى اصدار الفتاوى وأدنى من أن تكون مدرسة فقهية مكتملة العناصر والشروط. فالأوزاعي أفتى مرارا لخلفاء الدولة الأموية في عصرها الثاني وتحول إلى حد ما قاضي الدولة وكان الخلفاء الذين عاصروه يأخذون برأيه. فالأوزاعي اقترب من أن يكون مذهبا رسميا للدولة الأموية ولكنه لم ينتشر ويستمر كمذهب بعد افول دولة الامويين بل انتقل مع بقاياهم الى الاندلس إذ ساد هناك في الفترة الاولى ثم تلاشى مذهب الأوزاعي ليحل مكانه المذهب المالكي وأحيانا المذهب الظاهري. والمذهب الأخير اضمحل شأنه شأن الأوزاعي ولم ينجح في النمو والتطور كما حصل مع المذاهب الاسلامية الخمسة الكبرى.
نعود الى بلاد الشام. ففي تلك الفترة، فترة نشوء فرق الاعتزال، كانت الأمة تمر بتحولات حاسمة يمكن ايجازها بالنقاط الثلاث الآتية:
أولا: سياسيا كانت أطراف الدولة الأموية نجحت في تأسيس بؤر قوية للمعارضة (العباسية لاحقا) وأخذت بالضغط على المركز (دمشق) لانتزاع السلطة من دولة الأمويين.
ثانيا: ثقافيا كانت الأمة دخلت طور انجاز جمع أحاديث الرسول (ص) في عهد الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبدالعزيز. وأحدثت خطوة جمع الأحاديث ثورة ثقافية كبرى اسست لاحقا مدارس منهجية لقراءة الحديث وترتيبه وفق اسلوب متنوع الأدوات أسهم في بلورة خطة عمل في تفكير العلماء والفقهاء لاحقا.
ثالثا: عصبيا كانت الدولة انتقلت بعد رحيل الخليفة عمر بن عبدالعزيز من العصبية السفيانية - الأموية الى العصبية المروانية - الأموية وشكلت فترة الخليفة عمر (الذي يسمى الخليفة الراشد الخامس) مرحلة انتقالية بين العصبيتين الأمويتين.
في هذه الأجواء كانت بدايات تأسيس حركة المعتزلة التي يقال إنها حدثت في مسجد الشيخ الحسن البصري الذي توفى في سنة 110 هجرية تاركا مجموعة من الكتب أبرزها كتاب في تفسير القرآن (رواه عنه جماعة) وكتاب الى الخليفة عبدالملك بن مروان يرد فيها على «القدرية».
والقدرية آنذاك لم تكن تعني المعتزلة وإنما مجموعات سياسية معارضة قالت بالقُدرة وأن الانسان مسئول عن أعماله وبالتالي فإن الخليفة عبدالملك هو أيضا مسئول عن أفعاله.
ورد الشيخ الحسن البصري كان أساسا على أفكار تلك المجموعات السياسية قبل أن يرتد الخلاف ويحصل، كما تقول الروايات التاريخية، بينه وبين واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلسه وانتحى زاوية أخرى في المسجد وأطلق على أصحابه: المعتزلة.
معتزلة واصل بن عطاء (المؤسس الأول) لم تبدأ من الصفر وإنما جاءت نتاج تراكمات من الخلافات الفكرية والصراعات السياسية التي انتهت متبلورة في خطوط عقائدية تحاول الاجتهاد في التأويل والتفسير لتمييز نفسها عن آراء ومدارس كانت موجودة في ذاك العصر الأموي الذي دخل في طور جديد من العصبيات والانقسامات عايشها الإمام الأوزاعي والشيخ البصري وورثها المعتزلة عنهم. فواصل هو المؤسس لكن أفكاره ليست جديدة، فهو عمد الى ربط وتنظيم وتجديد الكثير من الآراء المتداولة عن العهود الموروثة مضيفا اليها تلك النظريات المستحدثة التي أتى بها وأدرجها في سياق تأويلي أعطته مكانة خاصة بين جيله وعصره.
بدأ واصل معركته في لحظة انتقالية اختلطت فيها السياسة بالفكر والعصبية بالدولة وبات من الصعب التمييز بين المعارض لأسباب «قومية» وبين المعارض لأسباب سياسية وبين من هو معترض أصلا على الدولة وذهاب الامامة الى عصبية بني أمية. فالاختلاف كان شديد التداخل الى حد يصعب على المؤرخ أن يفرز الحقيقي من المزيف ويقرأ بموضوعية تلاوين الفوضى وأطيافها السياسية. فهناك الموالي (جنسيات واعراق وأقوام غير عربية) اندمجوا اسلاميا في نسيج الأمة الا أنهم حملوا معهم خلافات موروثة دخلت مسام المجتمع وشكلت مواقع قوة ومراكز فكرية وثقافية. وهناك عصبيات قبلية عربية تداخلت مع عصبيات غير عربية وشكلت تحالفات سياسية اتفقت على فكرة واحدة هي اسقاط دولة الامويين ولكنها اختلفت على الموروث والبدائل. الى ذلك هناك الحساسيات الضمنية بين أطراف شجرة الأمويين وخلافات قادة العصبية الأموية وعدم اتفاقهم على رجل واحد ينقذ الدولة من الضعف والتفكك.
كل هذا الاختلاط نهض دفعة واحدة في وجه العلماء والقضاة والفقهاء والأئمة في لحظة انقسامية كانت الأطراف تضغط فيها على المركز... ويرد المركز بالضغط على اطرافه الى أن انهارت الدولة وتلاشت.
قبل اضمحلال العصبية الأموية لأسباب زمنية (تاريخية) وسياسية كان الاعتزال شهد ولادته الأولى وبدأ يشق طريقا وسط الفتن والمعارك واضطراب الأضداد. وعرف مؤسسها (واصل) كيف يدير دفة فرقته ويستفيد من تلك المناخات المضطربة لإعطاء معنى خاص لحركته التي اثارت الجدل ورفعته من مستوى القبلية والعصبية الى مستوى آخر من الجدل هو: صراع الأفكار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 301 - الخميس 03 يوليو 2003م الموافق 03 جمادى الأولى 1424هـ