على رغم تواتر عمليات المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال الاميركية والبريطانية في العراق، فإن القوى السياسية في البلاد تتوافق على استبعاد هذا الاختيار في الوقت الراهن، على الاقل. ترى هذه القوى، من ناحية ان انسحابا مبكرا لقوات الاحتلال سيفتح الباب لاحتمال عودة النظام السابق او إلى فوضى عسكرية وسياسية.
كما ان هذه القوى تعتبر ان مقاومة الاحتلال تتطلب اعادة الاحياء السياسي للبلاد وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتلاحم القوى الوطنية على برنامج وطني ديمقراطي تواجه به مشروعات سلطة الاحتلال.
تخترق الجماعة السياسية العراقية خطوط غير منظورة لكنها محلوظة ومرعية إلى حد كبير، اهمها ثلاثة، بينها قدر ملحوظ ايضا من التقاطع:
الاول هو خط التمايز بين الاحزاب التي استجدت منذ اوائل تسعينات القرن الماضي، اي منذ نهاية حرب الخليج الثانية، وبعضها لا تسبق نشأته تاريخ انهيار نظام الحكم 9 ابريل/نيسان الماضي، وبين الاحزاب القديمة او التاريخية التي مارست نشاطها قبل ثورة 1958 التي اطاحت بالنظام الملكي واستمرت بعدها في ظروف متقبلة، انتهت إلى استبعادها جميعا من العاصمة بغداد ومن مجمل الوسط العربي في العراق منذ اواخر سبعينات القرن الماضي عندما احكم الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين قبضته على السلطة أثناء سعيه إلى التخلص من «راعيه» احمد حسن البكر الذي بقي رئيسا للبلاد حتى العام 1979. وقد عاد ما بقي منها إلى بيئته الطبيعية التي كان منفيا منها. لعله من المبكر، وقد يكون من التعجل او التسرع القطع بحظ كل منها من الشارع السياسي بعد تلك العودة. كانت تلك الاحزاب تتوزع عموما بين اليسار الماركسي، ابرزها الحزب الشيوعي الذي بدا محتفظا بغير قليل من شعبيته التقليدية. وبين الاتجاهات الوطنية العراقية التي كان ابرز احزابها الوطني الديمقراطي الذي رحل منذ سنوات مؤسسه امل الجادرجي وشريكه في قيادته صديق شنشل، لكن الحزب عاود نشاطه في بغداد وغيرها من المدن العراقية تحت قيادة نصير الجادرجي. وبين الاتجاهات القومية العربية التي كان ابرز احزابها البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب. مصير حزب البعث الذي كان منفردا بالحكم حتى يوم 9 ابريل الماضي معروف/مجهول؛ ملتبس. اما حركة القوميين العرب، فقد عادت إلى الساحة السياسية العلنية بصوت يتناسب مع ما اصاب الدعوة القومية العربية ذاتها من خفوت.
يقع الحزب الديمقراطي الكردستاني، اقدم الحزبين الكرديين الرئيسيين وراء هذا الخط.
يميز الخط الثاني بين الاحزاب التي تتوجه إلى سكان العراق جميعا، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية او الدينية وتلك التي تقصر خطابها على فئة بعينها. ابرز هذه الاحزاب الحزبان الرئيسان في كل من الوسط الكردي: الديمقراطي - البارزاني والاتحاد الوطني - الطالباني. والوسط الشيعي: حزب الدعوة والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، كما يمكن ان يحسب ضمنها كل من الحزب الاسلامي وحزب العمل الاسلامي. فعلى رغم انهما يتوجهان إلى العراقيين بوصفهم مسلمين، الا ان طابعهما الاسلامي السني لا يخفى على العين المجردة.
يمتد خط التمايز الثالث وربما كان الاهم في الوضع الراهن، بين الاحزاب الموالية للسلطة القائمة، اي سلطة الاحتلال، وبين الاحزاب المناوئة لتلك السلطة.
على رغم الاهمية الراهنة لهذا التمايز الاخير، فقد غدا لا يخلو من التباس متعدد المصادر؛ بعض الاحزاب التي شاركت في مؤتمر لندن الذي عقد تحت مظلة اميركية/بريطانية ومهّد للغزو يقترب احيانا، كثيرا او قليلا، من الاحزاب التي قاطعت ذلك المؤتمر وعارضت الغزو، ابرز الامثلة هنا الحزبان الكرديان على رغم تمايز مواقفهما احيانا وفي بعض القضايا. كذلك تتذبذب وتترجرج مواقف القوى المستجدة، سواء منها ما نشأ في السنوات القليلة السابقة على الغزو او ما نشأ بعد سقوط النظام السابق.
وتندرج تلك الاخيرة ضمن حالات مرتبكة ومربكة: كلها - طبعا - من دون تاريخ وغالبية قيادتها كذلك.
من ناحية اخرى لا توجد قوة سياسية ليست لها صلات من نوع او آخر بسلطة الاحتلال التي اصبحت في نظر الامم المتحدة السلطة الشرعية. اكثر الصلات شيوعا و«شرعية» هي قبول التشاور في الفترة الانتقالية وفي مستقبل البلاد.
مع ذلك لا تخلو هذه الخريطة المعقدة والمتشابكة من معايير.
اهم المعايير هي ان المواقف التي يعتد بها هي مواقف الاحزاب التاريخية والاحزاب التي ترتكز على قواعد قومية وتلك التي تعبّر عن فئات دينية ذات وزن.
يؤدي الاخذ بهذا المعيار إلى الاطمئنان إلى القول انه لا توجد في العراق الآن قوة سياسية ذات وزن واعتبار تؤيد مقاومة مسلحة ضد قوات الاحتلال. فهذه القوى تعتبر ان انسحابا عاجلا لقوات الاحتلال لن يؤدي الا إلى الفوضى، التي تفتح البلاد على احتمالات كئيبة وخطرة، تبدأ من فتح الباب امام عودة النظام السابق الذي يستطيع لملمة عناصره والموالين له واعادة بناء هياكله، وخصوصا الامنية منها، ولا تنتهي عند احتمالات تمزق البلاد بين عصبيات سياسية/عسكرية تعتمد على ولاءات فئوية وطائفية. اي دفع البلاد إلى دوامة بلا قرار.
لكن اجماع هذه القوى ذات الوزن والاعتبار ينعقد ايضا على ان ما سبق لا يعني القبول بالاحتلال وبقاءه من دون مقاومة.
يقول الأمين العام للحزب الشيوعي حميد موسى ان الاساس الذي يجري بناؤه لمقاومة الاحتلال يتخذ شكل اعادة الاحياء السياسي للبلاد وتحقيق لحمة قوية بين القوى الوطنية؛ احزابا وهيئات وحركات ومؤسسات اجتماعية ومدنية وشخصيات. ويلفت موسى الانتباه إلى ان العمل بهذا الاتجاه يجري على قدم وساق منذ انهيار النظام السابق. وانه لا يجري في العاصمة وحدها، بل انه يجري اساسا في المحافظات والاقاليم ولا تحتكر المبادرة اليه قوة بعينها ولا حزب بذاته، وانه يقوم على التعامل مع الواقع السياسي في كل محافظة او منطقة، فهذا هو المعيار الحقيقي لاوزان القوى. ويؤكد موسى ايضا ان هذا العمل لا يستثني قوة من القوى. ويسرد سلسلة من اجتماعات التنسيق الوطني انعقدت في واسط والديوانية وميسان والنجف وديالي وكربلاء والبصرة والعمارة وغيرها، شاركت فيها احزاب تخترق اسماؤها خطوط التمايز جميعا ونقابات وتجمعات مهنية وجمعيات حقوق انسان وجمعيات خيرية وهيئات نسائية وحوزات علمية دينية ومؤسسات اكاديمية وقوى محلية. كما صدرت مبادرات الدعوة اليها واستضافتها قوى متنوعة، تبعا للموازين المحلية.
ويحدد رئيس تحرير «التآخي» الناطقة باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني فلك الدين كا كائي رؤية حزبه لموقع الحركة الكردية من الواقع العراقي الراهن بأنه التركيز على العمل باتجاه التطور الديمقراطي في البلاد والا يقتصر دورها على كردستان.
اما نائب رئيس «تجمع الديمقراطيين المستقلين» مهدي الحافظ فيقول ان «المقاومة هي بناء المجتمع المدني والعمل لتأسيس رأي عام ليبرالي علماني. المقاومة عمل يحتاج إلى نفس طويل».
كما ان المراجع الشيعية جميعا؛ آيات الله السيستاني والحكيم والصدر عبروا جميعا، في خطب وتصريحات علنية عن مواقف مماثلة او مشابهة من فكرة المقاومة المسلحة.
إلى هذا، فالتساؤل السائد بين القوى هو: كيف يمكن تنظيم مقاومة مسلحة في وضع داخلي منكسر؟ لا يمكن تجاهل اثر ما لقيه الشعب من اذلال.
كيف اذن يمكن تفسير عمليات المقاومة العسكرية التي تتوالى انباؤها كل يوم؟
الاجابات التي تصدر عن القوى السياسية تتشابه كثيرا مع ما تقوله «قيادة قوات التحالف»: هذه فلول النظام السابق.
بغض النظر عن ذلك التشابه، تلفت مصادر القوى السياسية إلى ان المواقع التي تقع فيها تلك العمليات تكاد تكون جميعا في محافظتي الرمادي وتكريت اللتين تعتبران معقل النظام السابق، إذ كان يعتمد على اغداق المزايا والامتيازات من خلال شبكات القربى العائلية والعشائرية. ويذكرون ان النظام السابق لجأ إلى كسب ولاء العشائر في المنطقة الوسطى من العراق إذ تركزت سلطته منذ هزيمته في حرب الخليج الثانية. كان من نتائج تلك الحرب ان فرضت منطقتا «حظر طيران» في الجنوب والشمال. ادت إلى اضعاف سلطة الحكومة المركزية فيهما، بل إلى انعدامها في المحافظات الكردية الثلاث: اربيل ودهوك والسليمانية، التي رعت فيها الولايات المتحدة حكما ذاتيا للاكراد، ويشيرون إلى ان محافظة الرمادي تسود فيها عشائر «الديلم» التي اطلق لها النظام السابق العنان في ممارسة عاداتها البدوية، بما فيها الاعفاء من سلطة القانون، طالما عملت في خدمته.
وتقول استاذة عراقية في علم الاجتماع ان النظام السابق، وخصوصا بعد انتفاضة 1991 رسم خريطة اجتماعية جديدة للمنطقة التي بقيت تحت سيطرته، كانت فيها مناطق تخضع لعقوبة «الافقار الجماعي» وهي ذاتها المناطق التي كان مصير كثيرين من ابنائها الدفن في مقابر جماعية. ومناطق يغدق عليها «الرخاء الجماعي» مطعما بالثراء الفردي المتراوح بين النسبي والفاحش، بحسب المكانة العشائرية والمحلية وحسبما يستطيع المحظيون تقديمه للنظام من خدمات.
تقول تلك المصادر ان هؤلاء هم الذين يقومون بالعمليات المسحلة ضد قوات الاحتلال. اي انهم يقاتلون املا في عودة ما كانوا يتمتعون به من امتيازات. وانها ايضا تعتمد على اساليب المرتزقة، فالارجح ان المبالغ الطائلة بالدولار الاميركي التي سحبت من المصرف المركزي قبيل الغزو مباشرة (حوالي مليار دولار في دفعة واحدة) هي التي تمول هذه «المقاومة».
هل يكفي هذا لتفسير تلك العمليات العسكرية المتواترة والمتصاعدة؟
لا تستبعد تلك المصادر وجود جماعات مسلحة مستقلة، ليست لها ارتباطات سياسية، تقوم ببعض العمليات ضد الاحتلال بدوافع وطنية، لكن ربما بامداد من فلول النظام السابق.
أليس طريق العراق إلى العافية شاقا وطويلا؟
العدد 300 - الأربعاء 02 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الأولى 1424هـ