لا يزال العالم بعد 11 سبتمبر/ ايلول، يتحرّك ككرات البليارد التي اصطدمت ببعضها بعضا، ولم تصل بعد إلى مرحلة الهدوء. قال لينين مرّة: «هناك عقود لا تصنع تاريخا. وهناك ايّام قد تصنع هذا التاريخ». 11 سبتمبر، هو ذلك اليوم الذي غيّر التاريخ، وخلط الاوراق. غيّر 11 سبتمبر صورة وخريطة التحالفات الدوليّة. وضع دولا في خانة الذكريات الماضية، واستعاد بعضها ممن كان منسيّا، لانها فقط لم تعد حاجة ماسة في صراع الكبار. كل ذلك فقط، لان أسامة بن لادن، كان قد قرّر قتال الكفّار، وطردهم من ارض الاسلام. عند المنعطفات التاريخيّة، تُرسم المصائر، تلغى وترسم الحدود. محظوظ هو من يكون في قمّة جبروته عند هذه الاوقات. لينين، ايزنهاور، تشرشل وديغول، هم من الاسماء المحظوظة. لكنهم صنعوا التاريخ، وظروفه معاكسة لهم. إلاّ جورج بوش، فهو اتى بالمصادفة، في لحظة لا تاريخيّة. وهو محظوظ لانّه فقط لوحده في الميدان، يصول ويجول من دون حسيب او رقيب. إنه بطل بالمصادفة، أغدق عليه التاريخ بكرمه، عندما تقاطعت لصالحه كل الظروف والاسباب الايجابيّة.
يقول مايكل لند في كتابه «صُنع في تكساس»، إن وصول بوش إلى الرئاسة، كان نتيجة تحالف نخبة من المحافظين الجدد من شمال شرقي الولايات المتحدة، مع المتديّنين الاصوليين البروتستانت، والموجودين في الجنوب الغربي. بوش من تكساس، وهو في الجنوب الغربي، وهو حليف المحافظين الجدد، وهو رئيس الولايات المتحدة. هل هناك، اصعب من تحقيق هذه المعادلة القاتلة؟ كلا، لكنها واقع ملموس.
ما الذي يميّز الرئيس الاميركي عن غيره من رؤساء العالم؟
- إنه ليس رئيسا، بل امبراطو، كما اطلق عليه هذا اللقب الكاتب والمفكّر أ. شليسنجر. إنه منتخب ويحكم مع مجلس وزراء معيّن من قبله. إذا وحسب المنطق، هو الذي يضع السياسة الخارجيّة الاميركيّة، والوزير السكرتير الذي ينفّذها. وإذا ما أخطأ هذا السكرتير، فالعزل من قبل الرئيس نصيبه. أخطأ الكسندر هيغ مع الرئيس رونالد ريغان، عزله ريغان بسرعة ومن دون ضجّة تذكر، عندما قال له: «قُبلت استقالتك». ذهب بعد ذلك هيغ إلى عالم النسيان.
هل يرسم الرئيس بوش سياسة الولايات المتحدة لوحده؟
- طبعا لا، فهو حتى لا يعرف خريطة العالم. وهو ايضا من صنع المؤسّسات، إذ الوسائل تفوق المضمون، كما قال الكاتب والصحافي المصري محمد حسنين هيكل. إذا لابد لهذه الامبراطوريّة المهيمنة من صُنّاع قرار، يعمدون إلى رسم الاستراتيجيّات الكبرى. لكن الاكيد، انه وعندما تصبح دولة عظمى، بحجم الولايات المتحدة، مهيمنة على مصير العالم. قد يعني هذا الامر، ان لهذه القوة المهيمنة، مصالح اينما كانت. فتُمحى الخطوط التي تميّز السياسة الداخليّة، عن السياسة الخارجيّة. ويُصبح اي حادث بسيط عند وقوعه في أيّة بقعة من العالم، مهما لامن هذه القوّة. فمصالحها تعمّ العالم، كذلك الامر قواتها منتشرة على بقعة واسعة من الكرة الارضيّة. لذلك قد تقع هذه القوّة ضحيّة مفهوم «الدومينو المتساقط». فتعتبر ان سقوط منطقة معيّنة، قد يؤدّي إلى خسارة مناطق أخرى.
يقول الكاتب والمفكّر الاميركي روبرت غيلبن، أن «للهيمنة ثمن ضروري لاستمرارها». وإذا ما كانت هذه الهيمنة مرشحّة للاستمرار، فمن الضروري ان تكون الارباح المحقّقة للمُهيمن، أكبر من الكُلفة. وإلا فما معنى هذا الاستثمار؟ وفعلا هذا ما تحاول اميركا القيام به. لكن كيف؟
يقول المفكّر العجوز في البنتاغون اندرو مارشال، ان الحرب المقبلة بعد سقوط الدب الروسي، لابد ان تكون في آسيا، وتحديدا في الشرق الاقصى. فالقوى المستقبليّة، والمرشّحة لمنافسة الولايات المتحدة، موجودة في هذه المنطقة.
ماذا جرى في هذه المنطقة بعد 11 سبتمبر؟
- لا تزال دول هذه المنطقة ككرات البليار التي تحدّثنا عنها في بداية المقال. الكل قلق، ولا يعرف ماذا ستكون عليه المراحل المستقبليّة. تارة تجتمع هذه الدول في مؤتمر يتناول التعاون الاقتصادي والامني، كلقاء شانغهاي مثلا. فجأة، لا يعود احد يتحدّث عن هذا المؤتمر. فجأة، تستعيد باكستان مكانتها الجيوبوليتكيّة بالنسبة إلى اميركا، وتتراجع اهميّة اكبر ديمقراطيّة في العالم والمتثّلة في الهند. تقرّر اميركا بيع طائرات أف-16 لباكستان، وتعود الهند إلى احضان الروس لمزيد من السلاح. كذلك الامر، تقوم الهند وروسيا بمناورات بحريّة مشتركة قرب شواطىء اليمن.
فجأة، يزرو رئيس وزراء الهند آتال بيهاري فاجبابي، عدوّه اللدود والمتثمل في الصين. فهل هناك اكبر من هذه الكتلة في العالم؟ كلا، فهي تضمّ حوالي مليارين ونصف المليار من سكّان العالم، هذا عدا القدرات الاقتصاديّة والعسكريّة. تتزامن زيارة فاجباي للصين، مع زيارة مشرّف للولايات المتحدة. كذلك الامر، توقع روسيا مع الصين اتفاقات تعاون في مجال الطاقة، وهي تريد مدّ انابيب النفط من سيبيريا الخالية تقريبا من الروس، إلى شمال الصين إذ يوجد ما يقارب من الـ 250 مليون صيني.
بعد 11 سبتمبر، انتشرت الولايات المتحدة عسكريّا، في مناطق لم تكن موجودة فيها. ها هي الآن، على حدود كل من الصين والهند. وهي ايضا في الفلبين. وهي بصدد إعادة تمركز كل قواتها المنتشرة على الكرة الارضيّة. فالمرحلة الجديدة، والبيئة الامنيّة في أيّ اقليم، تستلزم إعادة التقييم، وبالتالي أخذ التدابير الكفيلة، بتحقيق الاهداف بأقلّ كلفة ممكنة.
أين هي مراكز الثقل، والمحاور الاستراتيجيّة الاميركيّة في الشرق الاقصى؟
- تضرب اميركا بعد 11 سبتمبر، طوقا امنيّا دفاعيّا بعيدا جدا عن القلب الاميركي. وتعتبر اميركا نفسها، دولة تطل على الاطلسي، كما على المحيط الهادي. ولديها مصالح كثيرة جدّا في آسيا، حتى قبل ان تصل إلى هذه الدرجة من القوة. فالفلبين، ايّام الرئيس ماكنلي خير دليل على ذلك. هذا عدا عن استيلائها على الجزر الحيويّة في المحيط الهادي. فاميركا دولة بحريّة، متحرّكة، وتعتبر ان قوتها تقوم على سيطرتها على البحار، وهذا ما تفعله الآن. من خلال دراسة سريعة للاعبين في منطقة الشرق الاقصى، يمكننا تصنيف هؤلاء اللاعبين بالنسبة إلى الاهداف الاميركيّة، إلى قسمين: لاعبون اساسيّون، لايمكن الاستغناء عنهم، ترتكز عليهم اميركا في استراتيجيّتها الكبرى. تندرج كل من اليابان، استراليا وكوريا الجنوبيّة ضمن هذا التصنيف. لاعبون ثانويّون، تتمثّل مهمتّهم فقط بدعم اللعبة الاستراتيجيّة الكبرى، وادوارهم ثانويّة، لكن مهمّة وحيويّة في الوقت نفسه. تندرج الفلبين، سنغافورة، ماليزيا، اندونيسيا وتايلند في هذا التصنيف.
ماذا عن اللاعبين الاساسيين؟
- استراليا: يبدو ان استراليا قد تخلّت عن مفهوم «استراليا القلعة المعزولة»، والتي كانت قد اعتمدتها خلال الحرب الباردة. فهي الآن، لاعب استراتيجي مهم في آسيا. وهي تعتبر نفسها دولة غربيّة بالمفهوم الحضاري، لذلك هي قد تكون هدفا للارهاب. هذا عدا عن المخاطر التي تهدّدها والمتمثّلة بالهجرة غير الشرعيّة. لذلك هي موجودة في تيمور الشرقيّة، ولن تخرج منها قبل الاستقرار التام. كذلك الامر، تبدو استراليا نشطة في محاربة تجّار المخدّرات الذين يأتون من كوريا الشماليّة. دقّ تفجير بالي ناقوس الخطر في استراليا، وايقظها على المخاطر المحيطة بها. من هنا جاء قرارها في لعب دور اكبر على الصعيد الامني في الاقليم المحيط بها. فهي تخاف من اندونيسيا، والتي تعتبر الدولة الاسلاميّة الأكبر في العالم. عرضت استراليا وساطتها في مشكلة جزر سولومون، كذلك الامر تريد عقد اتفاق مع الدولة الصغيرة نورو لتكون محطّة للمهاجرين غير الشرعيّين. يمكن لاستراليا ان تكون محطّة لوجستيّة مهمّة للقوات الاميركيّة.
وهي مثاليّة لتؤمّن قواعد للبحريّة الاميركيّة. ويمكن ايضا ان تكون بديلا لدييغو غارسيا، وغوام كمحطّة للقاذفات الاستراتيجيّة. لكن الاهم، قد يكون في قرب استراليا من جنوب الفلبين، اندونيسيا، ماليزيا وتايلند، إذ يمكن للقوات الاميركية ان تقول عملياتها ضد الارهاب، وخصوصا القاعدة.
اليابان: في 1 مايو/ أيار الجاري زار رئيس وزراء اليابان استراليا، ليعرض على جون هوارد التعاون المشترك في المجالات الاقتصاديّة، البيئيّة والامنيّة. وان الشيء المشترك بين الاثنين، في انهما حليفين للعم سام. فاليابان، تشكّل القاعدة الشماليّة للجهاز الامني الاميركي في الباسفيك. واستراليا تشكّل القاعدة الجنوبيّة لهذا الجهاز. البلدان قلقان من الوضع الاندونيسي، كذلك الامر يخافان من التأثير الصيني المستقبلي في المنطقة. تعتبر الادارة الاميركية الحاليّة، انه على اليابان واستراليا ان تلعبا دورا امنيّا مهما في المستقبل.
لكن هذا الامر، قد يلزم اليابان على تعديل دستورها، خصوصا المادة التاسعة. لكن التحوّل الياباني هذا، قد يثير القلق في المحيط خصوصا في الصين. لذلك من المتوقّع ان يكون هذا التحوّل متواضعا، وتحت الاشراف الاميركي، ومظلّته النوويّة الرادعة للصين. تجمع الجغرافيا اليابان مع آخر دولة مغلقة في العالم، الا وهي كوريا الشماليّة. وإن تاريخ التعامل بين البلدين لا يبشّر بالخير، كذلك الامر الماضي القريب. فكوريا تهدّد اليابان بطريقة غير مباشرة، وذلك عبر صواريخها البالستيّة، والتي قد تكون محمّلة برؤوس نوويّة في القريب العاجل. من هنا تأتي أهميّة اليابان للولايات المتحدة في المنطقة. فهي قاعدة مهمّة للقوات الاميركيّة، وتطلّ على كل من الصين وكوريا الشمالية في الوقت نفسه.
كوريا الجنوبيّة: مخطىء من يعتقد ان كوريا الجنوبيّة ستطالب بانسحاب القوات الاميركية من اراضيها. فللانسحاب ثمن كبير جدا، وجب على الحكومة الكوريّة.ج. ان تدفعه. فالواقع الامني مخيف جدا في محيطها المباشر. وإذا ما ارادت كوريا الجنوبيّة ان تؤمّن امنها، فهي ستصرف مليارات الدولارات على ذلك، هذا عدا عن السيف النووي المسلّط على رأسها من الشمال. تشكّل كوريا الجنوبيّة القاعدة الثالثة للمثلّث الاستراتيجي الاميركي في الشرق الاقصى. فهي تجاور كوريا الشماليّة، وقريبة من الصين، وهي ايضا صديق قديم لاميركا يمكن الاتكال عليه. لكن الامر يختلف بالنسبة إلى الوزير رامسفيلد. فهو لديه اجندة خاصة به. وهو يريد تعديل الاستراتيجيّة الاميركية في المنطقة، وذلك من خلال إعادة الانتشار، وتحسين نوعيّة القوى. لذلك خصّصت اميركا مبلغا ضخما قدره 11 مليار دولار، للقوات الاميركية الموجود في كوريا الجنوبيّة. فالقوى يجب ان تكون اخفّ، أسرع وأكثر تدميرا. ويجب ان تملك اسلحة متطوّرة جدا، على غرار الاسلحة التي استعملت في الخليج العربي.
ويريد رامسفيلد ايضا، ابعاد قواته عن خطوط التماس مع الشمال، كي لا تبقى رهينة المدافع الشماليّة. وقد يعني هذا الامر، أنه قد يكون لهذه القوى مهمات تتعدّى المسرح الكوري. أو قد يكون هذا الامر، استعدادا لضربة على الشمال.
إذا هذا هو المثلث الاميركي الاستراتيجي في منطقة الشرق الاقصى. ويسير إلى جانب العناصر المكوّنة له، بلدان ثانويّة كما قلنا آنفا. فسنغافورة مثلا، مهمّة لتأمين الممرّات البحريّة بين الشرق الاقصى، والمحيط الهندي. واندونيسيا مهمّة لتأمين الممرات البحريّة مع استراليا. هذا عدا عن مشاركة كل الدول الثانويّة الحليفة في المعركة ضد الارهاب، على الاقلّ في شقّها الاستعلامي الاستخباراتي.
في الختام، ان اول ما سنراه نتيجة لهذه التركيبة، المزيد من التنسيق العسكري بين الحلفاء، خصوصا في المناورات وتبادل الخبرات. كذلك الامر، سنرى زيادات هائلة في موازنات الدفاع للدول المعنيّة، على ان تكون الصناعات الحربيّة الاميركيّة المستفيد الأكبر
العدد 300 - الأربعاء 02 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الأولى 1424هـ