حتى الآن لا تزال إدارة الاحتلال الأميركي للعراق تتخبط في خطواتها وقراراتها. كل يوم هناك بلاغات وبيانات تتعارض مع اليوم الآخر. وإذا جُمعت مختلف تلك الخطوات فإنها في مجموعها تشكل حلقة دائرية تلتف حول نفسها ولا تسير في خط مستقيم.
الاحتلال حتى الآن يبحث في العراق عن هوية أو اسم مشترك يمكن تحديده للتعريف به. مرة يقال ان الهدف هو إزالة «أسلحة الدمار الشامل»، والاحتلال يبحث عنها لتأكيد وجودها وتبرير وجوده. ومرة يقال إن المهمة هي إسقاط النظام وتحرير الشعب العراقي من الاستبداد، والاحتلال مستمر إلى أن ينتهي من القضاء على فلول النظام وبقايا اتباع صدام. ومرة يقال إن الاحتلال مجرد فترة مؤقتة ولن يستمر بعد إقامة النظام البديل وانتخاب حكومة ديمقراطية تمثل كل أطياف المجتمع. ومرة يقال إن نفط العراق لشعبه ثم تتخذ قرارات من دون العودة إليه توزع فيها الحصص والمشروعات على الدول المعنية بالسيطرة على مصادر الطاقة. ومرة يقال إن الاحتلال سيبقى مادامت هناك حاجة إليه وستخرج القوات الأجنبية حين تنتفي الحاجة إليها. والحاجة هنا غير زمنية بل هي معلقة بمدى نجاح الاحتلال في تثبيت مواقعه.
هذه الأقوال مضافا إليها أقوال أخرى من نوع مرة يسرح فيها الجيش العراقي (وهو أقدم مؤسسة في الدولة) ثم يعاد ويقال إن الاحتلال في صدد إعادة تأسيس الجيش بإشراف هيئة عسكرية أميركية. وقبلها قيل ان الاحتلال في صدد معاقبة أعضاء حزب البعث والمنظمات والأجهزة والهيئات المنتسبة إليه ثم يصرف النظر عن القرار ويصدر عن الحاكم الإداري (بول بريمر) ما يشبه العفو عن البعثيين باستثناء الذين ارتكبوا جرائم جنائية.
هذا من جانب الإجراءات العملية. أما إذا عددنا التصريحات المتضاربة التي تصدر عن المسئولين مباشرة في الإدارة الأميركية فإننا نحصل في مجموعها على «صفر مكعب» لا نفهم منها ولا نستطيع أن نقرأ من خلالها لماذا وقعت الحرب؟ ولماذا جرى الاحتلال؟ وكيف نخرج من هذه السلسلة من الحلقات المفرغة؟
كل مسئول أميركي يغنّي على «ليلاه» في وقت تشير استطلاعات الرأي إلى ان شعبية الرئيس جورج بوش تدهورت من 73 إلى 53 في المئة، والحبل كما يقال في المثل العامي اللبناني «على الجرار». ويرجح إذا استمرت شعبية الرئيس الذي يطمح إلى تجديد ولايته مرة ثانية في دورة السنة المقبلة أن يسقط السقوط المريع الذي يذكر بمصير والده في انتخابات 1992.
حتى الآن هناك كارثة سياسية وهي ليست غريبة قياسا على الأسباب التي تذرعت بها إدارة البيت الأبيض لإعلان حربها غير العادلة على العراق. والكارثة ليست في النتائج العسكرية (الولايات المتحدة فازت في معركتها) وإنما في الفضيحة الأخلاقية التي آلت إليها الحرب. فالحرب بدأت على رغم أنف العالم وتستمر الآن على رغم أنف الشعب العراقي. وهي تتم باسمه وضده، ومعه ومن دونه، وبإرادته ومن دون إرادته، ومن أجله وغصبا عنه. فالإدارة الأميركية تتصرف وكأنها واعية لمصالح العراق في وقت تقول للعالم ان شعب العراق غير واعٍ لمصالحه ولا يستطيع إدارة دولته ولا يعرف ماذا يريد؟ إنها خدعة دائرية تبدأ من الصفر وتستقر على مجموعة أصفار مكعبة. والنتيجة المزيد من التخبط والفوضى. فما ان تستقر الإدارة المدنية على رأي حتى تلغيه في يوم آخر. تسرح الآلاف من أعمالهم ثم تعتذر وتطالب بعودتهم. تعتقل المئات من دون تهمة ثم تحقق معهم وتطلق سراح معظمهم. تقوم بمطاردات عشوائية لرجال المقاومة فتنتهك أعراض الناس وكرامتهم وتدوس على عاداتهم وتقاليدهم ثم تستغرب لماذا يعيش الاحتلال أجواء نقمة وكراهية متزايدة من الناس البسطاء الذين تضرروا من الاستبداد ولم يشهدوا من الاحتلال سوى التعب والإرهاق. تطلق إدارة الاحتلال اتهامات سياسية ضد رجال المقاومة ويتبين بالتجربة ان أقوالها وافتراضاتها عن الجهات التي تقف وراء الهجمات ليست بالضرورة صحيحة.
حتى الآن لا تريد إدارة بريمر الاعتراف بأن المتضررين من الاحتلال ليسوا فئة واحدة أو طائفة معينة أو جهة محددة. المتضررون كثر. حتى أولئك الذين وقفوا معها في لندن وواشنطن وشجعوها على الحرب والاحتلال أخذوا يتذمرون من أساليب الخداع والمماطلة والتسويف والتهميش والاستبعاد واللعب على تعارضات المعارضة بمن فيها تلك «المستوردة» من الخارج.
حصر إدارة الاحتلال أعمال المقاومة في بقايا النظام مسألة مضحكة. فمن تعوزه الشجاعة لخوض الحرب دفاعا عن دولته تنقصه أيضا حين يتعلق الأمر بالتضحية دفاعا عن الوطن. والنظام الذي يفشل في تنظيم معركة الدفاع عن نفسه لا يستطيع - وهذا من البداهة السياسية - ان ينجح في الدفاع عن بقاياه. النظام الصدامي انتهى لا بسبب الاحتلال فقط وإنما لأن الزمن تجاوزه أيضا. فالشعب العراقي الآن خرج من دائرة الاستبداد ولن يقبل مهما كلفه الأمر العودة إليها مجددا. والكلام الذي يصدر عن الإدارة هو مجرد محاولة يائسة لتبرير استمرار الاحتلال وإعطاء شرعية للقتل العشوائي ضد السكان المدنيين للقول بأن المعركة هي ضد «النظام السابق» وليس لمنع الشعب العراقي من العمل بحرية لإعادة بناء دولته واختيار نظامه.
حتى الآن قرارات إدارة الاحتلال غير مدروسة وليست متجانسة. وكل خطوة يخطوها بريمر تعاكس ما قبلها. فهل الأمر مجرد خدعة أم يعكس خلافات في الإدارة الأميركية بين توجهات وزارة الدفاع ووزارة الخارجية، أم ان المسألة مقصودة... والقصد منها زرع الفوضى والعمل على الاستفادة منها لاحقا لإعادة توظيفها في معارك عسكرية تتخطى حدود العراق الدولية بتوجيه الاتهام إلى دول الجوار بأنها وراء الفوضى.
إنها فعلا مسألة محيرة ولا يعرف حتى الآن ما المقصود من وراء عدم تحرك الاحتلال لاحتواء المشكلات المعيشية والمدنية والأمنية للسكان... مع ان من ألف باء الاحتلال تقديم بعض الضمانات والتطمينات لأهل البلاد حتى لا ينتبهوا في الفترة الأولى على الأقل إلى الكارثة السياسية التي حلت بهم.
حتى الآن يعالج الاحتلال مشكلات الناس بأساليب أمنية وبإثارة القلاقل المحلية من خلال تصرفاته وقراراته العشوائية... وهي كما يبدو لا تخدم الاحتلال بقدر ما تعطي شرعية للمقاومة وتمدها بالمزيد من المشجعين والمقاتلين.
إنها سياسة متخبطة تزرع الفوضى ولا تحصد سوى المزيد من الكراهية والمقاومة. ولا يكفي للقضاء عليها ان يكتشف وزير الدفاع دونالد رامسفيلد «ان العراق ليس فيتنام».
فيا له من اكتشاف. العراق فعلا ليس فيتنام... إنه ببساطة العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 300 - الأربعاء 02 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الأولى 1424هـ