فيما نقلت تقارير وكالات الأنباء ذهول العراقيين لدى رؤيتهم وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف على شاشات التلفزيون وقد هزل وابيض شعره. فقد ظهر الصحاف الذي لقبه العراقيون «الآلة الكاذبة» للرئيس العراقي صدام حسين في مقابلتين أجرتهما معه قناتان تلفزيونيتان عربيتان. وسجلت الصحف العربية، عودة وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف إلى واجهة الحوادث، بعد أول ظهور علني له منذ سقوط بغداد في 9 ابريل/نيسان الماضي، في مقابلة مع محطة أبوظبي (الإماراتية) أوضح فيها ان التصريحات التي كان يدلي بها أيام الحرب كانت تعتمد على شبكة ضعيفة من المعلومات وانه لا يعرف شيئا عن مصير أفراد القيادة العراقية. وقال في مقابلة أخرى بثتها محطة «العربية» التي تتخذ دبي مقرا لها إنه سلم نفسه إلى القوات الأميركية التي استجوبته ثم أطلقته، علما بان اسمه ليس واردا على اللائحة الأميركية للشخصيات العراقية الـ 55 المطلوب اعتقالها. ووصف الصحاف في مقابلة «العربية» الفترة السابقة منذ سقوط بغداد في أيدي الاميركيين بأنها فترة صعبة مرت ليس عليه شخصيا فحسب ولكن على الجميع. ورفض كشف أية معلومات عن يوم سقوط بغداد، قائلا «إنه سيكشف كل الحقائق بعد البحث والدراسة في شكل مذكرات مكتوبة لتوثيق كل ما حدث وانه سيترك كل شيء للتاريخ والزمن... وانه لم يأت الوقت بعد للكشف عما حدث خلال الحرب».
وعلقت معظم الصحف العربية على هذا الظهور وتناولت غالبيتها المنافسة التي لوحظت بين الشاشات العربية، للحصول على مقابلة مع الصحاف... ولاحظت ضحى شمس في السفير (اللبنانية)، في مقالة تحت عنوان «العربية أبو ظبي: آخر حروب الصحّاف» ان كثيرا من الكلام رافق ظهور الصحاف التلفزيوني الأخير، كلام عن مئات آلاف الدولارات التي دفعت إليه من القناتين وعن مرافقة قوات الاحتلال لقناة من دون أخرى لإجبار وزير الإعلام المخلوع على الاستجابة للمقابلة. لكن الثابت ان المنافسة المهنية بين «العربية» وقناة «أبو ظبي» هي التي أخرجت وزير الإعلام العراقي السابق من مكمنه. وان حربا مهنية خاضتها القناتان من أجل الحصول على سبق الصحاف. وفي التفاصيل تنقل شمس، تأكيد مراسل أبوظبي ان محطته لم تدفع «ولا فلس» لقاء المقابلة... لكنه يؤكد أيضا ساخرا ان «العربية» دفعت «والله يعوّض عليهم» وانها جاءت عن طريق وسيط ذي نفوذ ومتمكن ولديه رجال مسلحون. لكن شمس، نقلت أيضا تعليق رئيس تحرير الأخبار في دبي صلاح نجم، على مجمل الأقاويل بالنسبة إلى تدخل قوات الاحتلال لإجبار الصحاف على المقابلة فضحك وقال: «هذه قصة غريبة عجيبة! أي ضغط من الأميركان. هذا كلام «فاضي». وأكد أيضا ان لدى «العربية» سياسة ألا ندفع لأية شخصية عامة: لا وزير ولا رئيس ولا نائب. ثم انه لو أن الأميركيين يريدون إجبار الصحاف على مقابلة لمَ لم يعطوها لقناة «فوكس نيوز»، لمَ يعطونها لقناة عربية؟ كل هذا كلام فاضي».
من جانبها، الوطن (الكويتية) قرأت من حديث الصحاف انه، لم يتخل عن طبيعته «المراوغة» في الإجابة عن سيل من الأسئلة التي وجهها مذيع قناة العربية. ولاحظت ان الصحاف الذي أكد انه ليس نادما إطلاقا؟ كما لاحظت انه كان حذرا جدا وحريصا على عدم التورط في إجابات قد تؤدي الى محاكمته، ومن هنا تنصل على الفور من مسئولية توجيه بيان إلى الجنود بترك مواقعهم والعودة إلى أسرهم. كما كان الخوف من صدام الغامض المصير على الأقل بالنسبة إلينا واضحا ولكن يبدو ان هذا الخوف والحرص على عدم الخوض في الكثير من التفاصيل يؤكد ان حاكم العراق المخلوع صدام حسين مازال على قيد الحياة. وأخيرا... لاحظت الصحيفة الكويتية ان النزعة التجارية بدت بوضوح على الصحاف الذي استخدم اصطلاح «كنز» للاشارة الى الفترة الماضية من حرب وسقوط لبغداد وكان واضحا انه يروج لبيع حقوق نشر مذكراته بمبالغ خيالية.
لكن الكفاح العربي، التي لاحظت ان الصورة تغيرت في الشكل لكنها حافظت على الجوهر... اعتبرت ان الصلابة والتحدي لم يتغيرا. ولاحظت ان الصحاف، قال بإجاباته المختصرة الهادئة المركزة لقناة «العربية» ما لم يتمكن الكثير من قوله على رغم كثرة الكلام. فترك كل شيء للتاريخ ليفصح عنه، وكأنه أراد من خلال ذلك القول ان التاريخ تكتبه الشعوب بلغة تختلف جذريا عن اللغات المحببة في هذا الزمن الرديء للكثيرين. انها لغة نسمع ببعض من أحرقها تكتب يوميا على ارض العراق. ولاحظت الصحيفة أيضا ان الصحاف، رفض الندم عن الفترة السابقة كما رفض تسلم أية مسئولية في هذه المرحلة، وكأنه يقول لن أتعاون مع الاحتلال. وقالت الكفاح العربي، إنه قد يكون صحيحا ان الصحاف، لا يعرف مكان صدام حسين وأضاء القيادة العراقية ولا يلتقي أحدا منهم لكن الأصح وكأنه يؤكد انها ليست من شيمه أن يشي برفاق حتى ولو كان صدام. وأشارت الكفاح العربي، إلى انه عند سؤال الصحاف، عن مؤتمراته الصحافية أثناء الحرب ألمح بكثير من الثقة إلى ان المعلومات التي أدلى بها خلال فترة العدوان كانت موثوقة. لافتة إلى انه وبكل تواضع أوضح انه لا يعرف تحوله إلى نجم عالمي وأكمل تواضعه بالقول إنه من أسرة عادية. وبممازحة لافتة قال انه أصبح «جدو».
ورأى ساطع نور الدين في السفير، الذي علق على ظهور وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف على شاشات التلفزيون، ان إطلالة الصحاف التلفزيونية الأولى كشفت ان الرجل لم يشف تماما من داء انفصام الشخصية، وإن كان قد فقد الكثير من خصاله الترفيهية التي حوّلته إلى نجم إعلامي عربي لا ينازع طوال الأسابيع الثلاثة التي استغرقتها الحرب على العراق. واعتبر نور الدين، ان قرار الظهور كان جريئا، على رغم ان بدله المالي يمكن أن يقدّر بمئات آلاف الدولارات التي دفعتها على الأرجح فضائيتا «العربية» و«أبو ظبي» إلى الصحاف، أو ربما إلى الحاكم الأميركي بول بريمر، لكي يسمح له بالتحدث مرة أخرى إلى التلفزيون. وإذ لفت في نهاية مقاله إلى ان الصحاف، وعد بكتابة تاريخ تلك المرحلة، قال إن الفضيحة يمكن أن تتجدد في أي وقت، لأن الوزير السابق يريد كما يبدو للتاريخ أن ينصفه، أو على الأقل يود أن يكفر عن ذنوبه... لكن نور الدين، اعتبر ان كل كلمة يكتبها الصحاف ستكون تذكيرا جديدا بأن ثمة شعبا بل أمة كاملة لم تصبح مؤهلة بعد لكي تحكم نفسها بنفسها...
ومن الذين انتقدوا أيضا هذا الاهتمام اللافت بالصحاف، جوزف سماحة في السفير ففي قراءة له للصلة بين جوزيه بوفيه(الناشط الفرنسي ضد العولمة)، وروبرت زوليك (الممثل التجاري للولايات المتحدة في المفاوضات العالمية)، والأطعمة المعدلة جينيا، والقطن الإفريقي، وقضية فلسطين، اعتبر سماحة، ان الصلة بينهم جوهرية. وإذ لاحظ عدم اهتمام العالم العربي لأمر بوفيه، على رغم انه شكّل قناة رئيسية لإدخال قضايانا العادلة، من الحق في التنمية إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، إلى صلب الحركة الكونية من أجل عولمة بديلة، انتقد سماحة العالم العربي الذي من المقدّر أن المهتمين بما قد يقوله الصحاف أكثر - آلاف المرات - من المستعدين لتوجيه تحية إلى بوفيه في سجنه. وليس غريبا، والحال هذه، أن تكون «خطة زوليك» هي «اللعبة الوحيدة» في «مدينة» الحياة الاقتصادية العربية. معتبرا ان سجالاتنا، بما في ذلك حول العمليات المسلحة في فلسطين والعراق، تبدو هزيلة حيال الجهد المطلوب لنعقل العالم المتداخل الذي نعيش فيه، ولنتلمّس شق طريقنا.
من جهة أخرى - وفي السياق نفسه - تزامنا مع ظهوره المفاجئ أجازت الرقابة في مصر شريط فيديو جديدا بعنوان «أحاديث الصحاف» يضم البيانات والمؤتمرات والأحاديث التي أدلى بها خلال الحرب
العدد 300 - الأربعاء 02 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الأولى 1424هـ