العدد 300 - الأربعاء 02 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الأولى 1424هـ

طريق مسدود لا رهان عليه

بين الحداثة والقومية العربية

بني جمرة - عادل مرزوق الجمري 

تحديث: 12 مايو 2017

عندما تحدث أرنست غيلنر في كتابه «الأمم والقومية» عن القومية بشكل عام أيا كانت وأيا كانت مقوماتها ومبرراتها وعناصرها التي تلتف حولها كان الباحث مفككا ومحللا أجاد جمع أدواته البحثية لدراسة الفكر القومي نظريا وعمليا. كان القسم السابع من كتابه بعنوان: «دراسة نماذج القوميات» معتمدا على تبيان العوامل التي تنشأ القومية منها. تلك العوامل كان أهمها في رأي الكاتب السلطة وتحدد هنا بالدولة وسلطتها أو أحيانا بمفهوم الأمة ولو أنه لا يروق للبعض اصطلاح الأمة من دون وجود دولة مناط بها استخدام العنف. الدولة المناط بها استخدام العنف لخدمة مصالحها أيا كانت. وتأتي بعد ذلك الكثير من العوامل كاللغة أو الدين أو الأعراف والتقاليد أو جغرافيا الطبيعة أو حتى المؤثرات الحضارية والثقافية وخصوصا في الحضارات الكبرى التي كان لها ثقلها التاريخي في حياة البشرية.

لكن السؤال الذي نتوق إلى الاجابة عنه بشفافية ووضوح هو هل القومية بوصفها نتاجا حضاريا أو حتى اجتماعيا قادرة على التكيف مع العصر الثالث الذي حدده غيلنر بعصر الصناعة، لنكن واضحين أكثر هل من الجدير بنا في عصر العولمة والقرية الصغيرة أن نبحث عن قومية عربية تجمعنا وتلم شتاتنا العربي الممزق منذ أمد بعيد؟ ها قد بدأت في استنطاق القومي العربي في كتابتي هذه، الحلم العربي الذي غنى له خيرة الفنانين العرب وكان الجميع يبكي بدلا من الدموع دماء، أم خطب جمال عبدالناصر أو حتى اخيرا صدام حسين إذ يرتدي لباس القومية العربية كبطل لقادسية جديدة تسحق اعداء العروبة المجيدة، تلك صور القومية العربية التي ينتشي لها البعض فيقبل بما هو غير معقول كأن يتحول صدام حسين من مجرم حرب الى قائد عربي يحرر القدس بجيش القدس. هل ما ذكرته هنا حقيقة تستحق النظر والتضحية؟ هل تستحق الرهان على اقل تقدير؟!!

ليس الأمر بالسهل اليسير أمام الكثير من الموروثات القومية التي تربينا عليها، فالقاطن في موريتانيا التي لا أعلم عنها وعن حضارتها وعن شعبها أي شيء هو أخي في العروبة والاسلام. والاميركي الذي يهدي بلادي أجهزة التطور والتقدم العلمي ما هو إلا سارق ذليل للنفط. المهم في ما نريد بحثه هو القومية العربية بوصفها منظومة سياسية، بمعنى هل يحق لنا المراهنة على القومية العربية أو الأمة العربية في العودة الى أمجاد التاريخ الماضية؟أجاب أستاذ العلاقات العامة والاعلام بجامعة البحرين جمال الزرن مسرعا بأنه يقبل الرهان خلال محادثاتنا القصيرة بعد كل محاضرة. عموما يجب علينا الفصل بين القومية العربية ومنتجاتها الفرضية وبين الانسان العربي، فالرهان على الانسان العربي رهان ناجح بكل المقاييس ليس تحديدا لأنه عربي بل لأنسنة الرهان، إذ ان الانسان العربي بوصفه إنسانا ساهم في مكونات الحضارة الانسانية يمكننا الرهان عليه لموروثاتنا التاريخية والحضارية والثقافية وهذه النقطة لا خلاف عليها. نعود إلى نقطة بحثنا الرئيسية وهي القومية العربية بوصفها منظومة سياسية يسوق لها ويراهن عليها البعض على الصعيد الاستراتيجي، هل من نجاح لها؟ أو هل من فروض أو تطلعات مقبولة للنجاح؟

هناك عدة نقاط مهمة لابد من الاشارة إليها. منها ان علم الاجتماع أقر علميا، أن تاريخ البشرية كان الانسان فيه فعلا يتحرك على نمط جماعات لا أفراد ولنقل جزافا يتحرك ويعمل ويتثاقف كقوميات سواء جغرافية أو دينية أو لغوية فتلك حقيقة واقعة. الحقيقة الثانية هي واقعية القومية على الصعيد النظري والعملي إذ ان اللغة كمثال مهم لأسس نشوء الكثير من القوميات رباط ثقافي وحضاري واجتماعي له اهميته في تكون النسيج المجتمعي بشكل عام، والحقيقة الثالثة أن بعض الصور التاريخية للقومية كانت ناجحة فعلا في الكثير من الفترات التاريخية كنجاح الدولة الاسلامية التي وصلت الى الصين أو نجاح المغول التتار في انشاء امبراطوريتهم الكبرى على رغم انعدام القيم الحضارية واعتمادهم الكلي على قيم غريبة فقد كان الرابط قوميا صرفا. تلك الصور بحاجة إلى الدراسة والتحليل فعلا من بعض المهتمين بالانثروبولوجيا والحقيقة الكبرى أننا لا نجرم القومية بوصفها قومية اجتماعية او ثقافية ولا نتهمها جزافا بأنها مهمل تاريخي لابد من نسيانه واستبداله، بل هي حقيقة واقعية لا يمكن تجاهلها، حتى الدراسات الحديثة لما بعد الحداثة تنتقد الحداثة ذاتها لاهمالها بعض العناصر المهمة منها اللغات الاديان والقوميات الاجتماعية.

وللقومية التاريخية الحضارية ذاتها نتاجها الثقافي الوافر إذ يقول ماركس (إن نمط الحياة المادية يقرر السمة العامة لعمليات الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية... وعلى العموم نستطيع ان نحدد أنماط الانتاج الآسيوي والقديم والاقطاعي والبرجوازي الحديث على أنها حقب متدرجة في التشكيل الاقتصادي للجميع). إذن من هنا نريد البحث ونبدأ... هل باستطاعتنا الاعتماد على القومية العربية في الدخول إلى العولمة وتخطيط مكانتنا التاريخية كما نريد أو كما ينبغي. هنا السؤال المهم والحساس.

لنسلط الضوء على ما نمتلك الآن من أدوات الحضارة في العصر الثالث (عصر الصناعة). كلنا يحتاج إلى التلفاز والاجهزة الكهربائية الأخرى ولكننا لا نعرف صناعتها، لكنا نحتاج إلى هذه الصحيفة لنقرأها كل صباح ولكن آلة الطباعة ليست من صناعتنا، إذ يصل الحداثيون في افكارهم وطرائقهم الفكرية والتحليلية والثقافية الى نقد الحداثة عينها. يعتبر ارباب الرأي العام الديني خصوصا تلك الفئة كافرة لا تجوز قراءة منتجاتها الفكرية، غائبة عن عصر الصناعة على الصعيد العملي ومنهزمة أمام ثقافة هذا العصر، إذ يبدأ علي حرب حربه الضروس على القومية العربية أو كل ثقافة عربية أو اسلامية ترفض الخوض أو التفاعل مع ثقافة عصر الصناعة والسرعة كأن يقول (الذين يخشون أو لا يرون مثل هذا التحول دفاعا عن هوياتهم الثابتة أو تشبثا بتصوراتهم الازلية والمستهلكة عن الحرية والحقيقة، لا يرون وسط الرؤية بقدر ما يتمسكون بضعفهم، وينتجون مآزقهم بقدر ما يكتبون نهاياتهم ونهاية أفكارهم وأدوارهم، ان الفرصة الوجودية المتاحة لمواجهة فتوحات العولمة وتحدياتها، هي العمل على تغيير قواعداللعبة، بوضع الهويات الثقافية على مشرحة النقد والتحليل، لاعادة تشكيلها على نحو أغنى وأقوم وأكثر راهنية، كي لا تتحول إلى مجرد بقايا تاريخية أو ترسبات تراثية أو أسماء جامدة - لا فعل لها سوى إعاقة سيرورة النمو والازدهار أو شل إرادة الخلق والابتكار).

حريا بشعوب تمتلك من أدوات الصناعة والحضارة كما وكيفا ما يجعلها تتردد في القبول بالعولمة ونسيان نظمها الاجتماعية والسياسية كفرنسا مثلا، ليس نحن الذين لا نملك ما نحاور به أو ما نستطيع ان نجعله كارتا رابحا سياسيا فضلا عن الشق الثقافي من ممارسة وتأثير فيما يركز إعلامنا العربي والاسلامي عليه كنظرية حوار الحضارات وتأطير العولمة وتهذيبها للتوافق مع موروثنا الثقافي البائد.

أولى عيوب القومية عربية كانت أم اسلامية انكارها للحقائق. لا هروب من الاعتراف بأننا نتجدد فكرا وثقافة بتفاعلنا مع الفكر الغربي أو المقابل أيا كان، إذ ان الافكار المهمة والحقائق المعرفية والفكرية تبقى على الدوام لا تلغيها حدود أو حواجز، لن توقفها فتاوى تكفير أو اتهام بالعمالة للغرب. أتذكر زيارة محمد أركون للبحرين وما صاحبها من نزاعات وتراشق فكري لا معنى له، الحداثيون صوروا اركون قمة الحادثة وهرم الفكر الجديد الأوحد، والاسلاميون صوروا اركون ورفاقه بالملحدين المنكرين لوجود الخالق وحُرمت قراءة كتبهم ومؤلفاتهم، أتساءل عن أي حوار حضارات نبحث مادامت أدوات الحوار في ثقافة العرب بوصفها قومية سنقبل بها جزافا في هذه النقطة المعدومة تماما، وعلى الصعيد المقابل، لمفكري القوميات إنتاجهم الحضاري الموجود على الدوام حتى وقتنا الحاضر، فمازالت نظريات ابن رشد وابن عربي أو نظريات ابن خلدون الاجتماعية حاضرة للبحث والتحليل، ومازالت نظريات ماركس عالقة في الاذهان. لنأخذ مثالا حيويا أشار إليه علي حرب لرفض الاسلاميين للعولمة، إذ يرفض علي سامي النشار تسمية الفارابي وابن سينا وابن رشد بفلاسفة الاسلام لأنهم بنوا فكرهم على فلسفة اليونان، أما الاسلام فله فلسفته الخاصة المعتمدة في الاساس على القرآن الكريم، فمأزق الاسلاميين هنا كون فلاسفتهم التاريخيين في الاساس كان نهجهم ولغتهم الفلسفية يونانيين فلماذا يرفضون العولمة في الوقت الحاضر مع انهم قبلوها منذ القدم وأسست فلسفتهم على اساسها المبسط آنذاك؟

ليكن للسياسة شأن وحديث، ليست العولمة في اعتمادها على الغاء القوميات اطروحة اميركية سياسية وان كانت أخذت هذه الصبغة فعلا، ليست مشروعا استعماريا جديدا كما يصفها البعض، انها نتاج ثقافي وحضاري بالدرجة الأولى فرضه الاقتصاد الذي نشأ نتاجا طبيعيا للتطور والحضارة الانسانية على مدى التاريخ، والتي احتفلنا بريادتها في فترة زمنية سابقة، العولمة نتاج حضاري للاسلام والمسيحية والاشتراكية والاقطاعية والملكية وكل النظم السياسية السائدة منها والمستضعفة التي نشأت جميعا بمرجع ثقافي على الاغلب. القومية العربية تحديدا لا أجد مكانا لها في هذا العصر بتحولاته ومؤثراته، من الصعب إن لم يكن مستحيلا بناء خطط استراتيجية تعتمد على القومية العربية للدخول في المعترك الثقافي والاجتماعي والصناعي العالمي في الوقت الراهن. كيف لها بآلياتها وأدواتها البالية أن تخطو في عالم بلا حدود أو قيود، عالم لا يعترف بالألوان أو الاصول، يعترف بالعقول وما تنتج من اجهزة وحضارة وثقافة، لابد من القبول بما يلف عالمنا من تقنية ووسائل اتصال جماهيرية مؤثرة في شتى الشرائح الاجتماعية. ما القومية العربية إلا نازية لا تعترف بها الحداثة الجديدة وخصوصا في ثوبها السياسي الذي نلبسها إياه، ليست إلا لونا من هتلرية الفكر العنصري الممقوتة لدى أرباب الحضارة الصناعية الحاضرة.

عندما انفصلت نيوزلندا عن المملكة المتحدة بقي الشعبان مستمران في الاتصال الثقافي، ويأسف القوميون العرب لفشل الوحدة العربية... لماذا؟ مع أن العرب في بلدانهم المختلفة بينهم الكثير من الاختلافات المذهبية والثقافية والفكرية الاجتماعية، يختلفون ثقافيا اكثر مما يختلف الانجليز والنيوزلنديون. لم تتوقف عجلة التقدم والتحديث في البلدين ولكنها توقفت في شتى البلدان العربية بدعوى الانتظار ليوم تصحو الأمة فيه وتعود إلى أمجادها الغابرة. تلك الفترة كانت نتاجا طبيعيا نقر به. في تلك الفترة الزراعية - كما يصفها غيلنر - كانت مقومات الحياة مختلفة وكانت مظاهر العصر مختلفة، كانت دولة العرب والاسلام، تلك القومية المتماسكة، يحكمها السيف الذي يقتل كل صوت خارج عن بوتقة القومية المقدسة.

في عصر الحداثة لا للفكرة الواحدة المهيمنة على عقول البشر، فأين ستعيش القومية العربية التي تقمع كل من لا يؤمن بها؟ في عصر الحداثة تفتح الابواب لكل لمتكلم، لكل رأي، لكل مفكر، فأين ستعيش القومية العربية التي لا تقبل بالآخر فردا أو أقلية؟ في عصر الحداثة كل شيء حديث متطور، كل شيء قابل للنقد بما فيها الحداثة نفسها، فأين ستعيش القومية العربية بنظرياتها القديمة المسجلة لزمان غير هذا الزمان، لمكان غير هذا المكان؟ والأهم، كانت القومية العربية معدة لإنسان غير هذا الانسان الذي يعيش الآن... لا رهان... الرهان خاسر محالة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً