اعلنت القوات الاميركية اعتقالها لأكثر من 900 من الموالين للنظام السابق في اطار عملية «عقرب الصحراء» لانهاء المقاومة العراقية. ومع ان المصادر العسكرية الاميركية اكدت انه «لم يعد كل هذا العدد قيد الاعتقال»، غير انه لم يتم تحديد عدد الذين لايزالون رهن الاعتقال. إلا ان العراقيين يتوقعون ان تتصاعد الاعتقالات بين عناصر النظام السابق، ويتوقع ان تجري اعتقالات لأشخاص محددين سلفا.
ويجري الحديث في الشارع العراقي عن قوائم جديدة لأسماء المطلوبين لقوات التحالف، وتتردد شائعات بأن هذه القوائم تضم 200 اسم، فيما بعض الأحاديث تقول ان هناك فعلا قائمة تتضمن 600 اسم تتم بموجبها ملاحقات واعتقالات. وواقع الحال يقول انه لا توجد قائمة سوى قائمة الـ «كوتشينه» التي تضم صور وأسماء 55 شخصا تبحث عنهم قوات الاحتلال وأكثر من نصف هذه القائمة الأخيرة تم فعلا اعتقاله. ويأتي هذا التطور في وقت اعلنت فيه القوات هجوما جديدا باسم «حية الصحراء» اعقبه صدور بيان عن بول بريمر يعلن فيه العفو عن البعثيين.
والمتتبع لتاريخ العراق السياسي يجد ان موضوع القوائم ليس جديدا على تاريخ هذا البلد، وانه في كل مرة يشهد فيها البلد تحولات دراماتيكية كانت قوائم تظهر بأسماء المطلوبين للسلطات الحاكمة الجديدة. فبعد انتهاء الحرب العراقية البريطانية العام 1941، كلفت المخابرات البريطانية أحد منتسبي شركة نفط البصرة بإعداد قائمة بجميع الضباط والمدنيين الذين لعبوا دورا بارزا في الحرب، وكان الشخص هو الأخ الشقيق لمؤسس الحزب الشيوعي العراقي وسكرتيره العام يوسف سلمان المعروف باسم (فهد) وقام هذا الشخص فعلا بإعداد القائمة المطلوبة مستعينا بأخيه.
وفي العام 1956 قدم السكرتير الثاني في السفارة البريطانية في بغداد قائمة كاملة بأسماء الضباط الاحرار في العراق الى الوصي عبدالاله، وبناء على هذه القائمة جرى عقد اجتماع موسع بين الوصي ورئيس الوزراء العراقي الشهير في العهد الملكي ورئيس اركان الجيش ومدير الاستخبارات العسكرية نوري السعيد وبحضور الملك فيصل الثاني لمناقشة موضوع القائمة التي كانت مكتوبة بخط اليد وباللغة العربية. وبعد نقاش طويل بين الحضور استمر لمنتصف الليل اتفق الحضور على ضرورة اقصاء هذه الاسماء من مناصبها، وفعلا تمت احالة بعض الاسماء على التقاعد فيما احيل آخرون الى وظائف اخرى، فبعضهم تم تعيينه سفيرا وبعضهم عين بوصفه ملحقا عسكريا في خارج العراق ومتصرفا للالوية، وكان الرأي ان تتم هذه العملية بهدوء ومن دون اثارة للانتباه، وفعلا تمت المباشرة بها إلا ان بعض الرؤوس القيادية في هذه القائمة استثنيت من القائمة فيما بعد ولم تطلها التنقلات او التقاعد او اعادة التعيين، فاستطاعت ان تسقط النظام الملكي وتعلن الجمهورية صبيحة 14 يوليو/تموز 1958. وفي العام 1963 بعد الاطاحة بنظام عبدالكريم قاسم واستلام حزب البعث مقاليد الحكم، قام الحرس القومي الذي مثل ميليشيا شعبية شكلها البعثيون بإعداد قوائم بالشيوعيين الذين شملتهم التصفيات الجسدية. وعندما انقلب اول رئيس للجمهورية في العراق عبدالسلام عارف على البعثيين في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963 صدرت قوائم بأسماء البعثيين الذين تم نفيهم او اعتقالهم او تصفيتهم.
وهكذا فالحافظة لذاكرة التاريخ السياسي للعراق معبأة بوعاء من القوائم التي كانت تستهدف كرد فعل عن ممارستها للعنف الدموي حال ازاحتها عن مقاليد السلطة. والامر لم يختلف كثيرا عندما خلع نظام الرئيس السابق صدام حسين، فقد توقع العراقيون ان يتم اعداد قوائم بكل عناصر النظام السابق وكبار المسئولين فيه بهدف القضاء عليهم. غير ان القائمة التي اصدرتها قوات الاحتلال ضمت قائمة كوتشينة محددة بـ 55 اسما فقط بعضهم لم تكن له مسئولية حقيقية سوى شكلية مثل طه محيي الدين معروف الذي كان عضوا في مجلس قيادة الثورة ونائبا لرئيس الجمهورية. وهو في واقع الحال لم يكن له أي دور في الحكم، وان وجوده في هذه المناصب نابع من كونه شخصية كردية، ولم يكن الرجل يمارس أي دور منظور اللهم سوى الشكل المظهري للدلالة على المشاركة الكردية في الحكم.
ووفق قياسات الذاكرة المختزنة للتاريخ السياسي العراقي، فقد اعتبر الكثير من العراقيين ان قائمة المطلوبين الـ 55 ليست سوى المقدمة لقوائم لاحقة. ويتوقع سمير خيري - محلل سياسي واكاديمي - ان تصدر قوائم لاحقة. ويقول «ان قائمة 55 ليست سوى قائمة اولية يمكن تقسيمها الى ثلاثة اصناف، الصنف الاول شمل كبار رموز النظام السابق الرئيس ونجليه وسكرتيره واخوته غير الاشقاء واعضاء مجلس قيادة الثورة واعضاء القيادة القطرية لحزب البعث السابق والمسئولين الحزبيين للمحافظات. الصنف الثاني ضم كبار القياديين في الاجهزة الامنية. الصنف الثالث ادرج فيه القياديون في مجال برامج اسلحة الدمار الشامل». ويضيف: «هذه القائمة تم اعدادها من قبل المخابرات البريطانية والمخابرات المركزية وتمت الاستفادة من قوائم قدمتها بعض قوى المعارضة السابقة للنظام المخلوع، كما تمت الاستفادة من ارشيف اللجنة الخاصة التابعة للامم المتحدة التي عملت في العراق ما بين العامين 1991 و1998». ويتابع: «اذا لم تكن لدى الاميركيين قوائم اخرى، فإنه من المتوقع ان يتم اعداد قوائم اضافية على ضوء نتائج التحقيقات مع الاشخاص الذين تم اعتقالهم».
وعلى ما يبدو ليس وحدها قياسات التاريخ العراقي تدعو الى عدم اقتصار المطلوبين على قائمة الـ 55، وانما ايضا ما يختزنه الكثير من العراقيين من صور المآسي الشخصية او المآسي التي مر بها الاصدقاء والمعارف والاقرباء تدعو الى ادانة الكثير من عناصر النظام السابق، تلك الصور التي استعادت نفسها بعد ان رفع الستار عن الفضائع التي ارتكبها النظام السابق والتي راح ضحيتها عشرات بل مئات الآلاف من العراقيين عبر العقود الثلاثة الماضية.
بدورها الاعتقالات التي تمت لمسئولين سابقين لم تضمهم قائمة الـ 55 (مثل رئيس البرلمان السابق سعدون حمادي ورئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين خضير ووزير المالية حكمت العزاوي ومحافظ البنك المركزي عصام حويش) رجحت وجود قائمة تضم بين 200 و600 اسم.
وتروج الكثير من القوى السياسية العراقية الحالية التي كانت موضع تهجير واضطهاد من قبل النظام السابق انه فعلا هناك قوائم تصل في مجموعها الى ستة آلاف اسم سيجري اعتقالهم ومحاكمتهم من قبل الاميركيين.
ويعتقد الكثيرون في بغداد ان السلطة الاميركية الحاكمة للعراق قسمت هرم المطلوبين من مسئولي النظام السابق الى ثلاث طبقات تقع في قمتها قائمة الـ 55، بينما تضم الطبقة الوسطى من الهرم نحو 600 من كبار المسئولين من عسكريين ومسئولين حزبيين واداريين وكوادر عليا في الاجهزة الامنية. وبحسب المعلومات فقد تم اعتقال ما بين 300 و400 ضمن الطبقة الوسطى لهرم المطلوبين. أما قاعدة الهرم فيبدو ان السلطة الاميركية غير مستعجلة حتى الآن للقصاص منها. ومن المؤكد ان هذا الهرم ليس مستقرا وانما يشهد حراكا على الاقل في قاعدته وطبقته الوسطى، لاسيما لجهة اتساع نطاق اعمال المقاومة ضد جنود الاحتلال الانجلو ـ اميركي التي يمكن كنتيجة لها ان يتم ادراج اسماء اضافية في قوائم المطلوبين
العدد 299 - الثلثاء 01 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الأولى 1424هـ