حضور المحاكم والوقوف أمام القضاة في «المحكمة الجزائية الكبرى» (لاحظ انها الكبرى وانها تتعلق بالجنايات والجرائم) أصبح قدر الصحافيين والناشرين في البحرين، وكل ذلك بفضل وزارة الإعلام التي أصدرت قانونا قبل يومين من الانتخابات النيابية يساوي بين كل من «سولت له نفسه» العمل في صحيفة أو دار نشر أو مكتبة أو مطبعة أو اشتغل على الانترنت أو نشر صحيفة جدارية في مسجد أو كتب بيانا باسم جمعية، وبين «المجرمين» المتهمين بالسطو على المال العام والقتل والنصب والاحتيال وتهريب المخدرات والحشيش... الخ.
بعد فترة من الزمن يتعلم المرء كيف يتعامل مع ظروف وغرائب هذا الزمان... الزمان الذي ليس التناقض صفته الوحيدة، وانما ايضا تضييع الوقت والجهود وتبذير الأموال في كل ما لا ينفع الناس، ولا ينفع الصالح العام، ولا ينفع سمعة البلاد التي سعى الجميع إلى تحسينها امام الرأي العام العالمي.
حضرنا جميعا يوم أمس المحكمة، متهمين حاليا ومتهمين مستقبلا، لنستمع إلى بعضنا بعضا... بعد عشر دقائق من ابتداء المداولة تم تأجيل المحاكمة حتى 20 سبتمبر/ أيلول المقبل. محامي «الوسط» طلب الاطلاع على ملف القضية المعنية التي قيل ان هناك نشر معلومات عنها. فكيف يستطيع المحامي الدفاع عن أمر ليست لديه معلومات عنه؟ وفعلا قضت المحكمة بالسماح لمحامي الدفاع بالاطلاع على ملف الجناية رقم 4/2003 وذلك بعد صدور الحكم المتوقع في تلك القضية خلال الأيام المقبلة.
عندما كنا في الانتظار جلس إلى جانبي عدد من الافراد العاملين في وكالات الأنباء الدولية، والتفت إليّ أحدهم قائلا: «ان القانون الذي يحاكمك اليوم سيحاكمني غدا لأنني ارتكب «جرائم» يومية بحسب نص هذا القانون، ولا أدري اذا كنت أود الاستمرار في مهنة يعتبرها القانون جريمة»... ليس لدي أي تعليق لأن شخصا آخر كان يتحدث ويقول: «هناك شركة عالمية تنوي فتح مكتب بث تلفزيوني واعلامي في البحرين ومن المفترض انهم يبدأون هذه الأيام ولا اعتقد انهم سيستعجلون بعد كل الذي يحصل، ولربما ان تأخيرهم يتحول إلى الغاء لمشروعهم، فلا يوجد عاقل يود العمل في وظيفة يعتبرها القانون جريمة، أو أخت الجريمة».
وزارة الإعلام تمتص من موازنة الدولة أكثر من ثمانية ملايين دينار سنويا ولو أن هذا المبلغ حوّل إلى وزارة الصحة أو وزارة التربية لوفرت الدولة مزيدا من الأموال من دون ان تخسر شيئا.
بدلا من ذلك فإن وزارة الإعلام لديها هذه الموازنة وهي مشغولة أو منشغلة أو مشتغلة بمطاردة الصحافيين وتقديم الشكاوى عليهم، من خلال تحريك القانون ومن ثم التبرؤ من ذلك والقول ان طرفا آخر هو الذي فعل ذلك. وهذا الأمر بالنسبة إلى قضية «الوسط» مهم جدا لأننا نقول ان الوزارة هي التي حركت الأمر واشتكت، والوزارة تنفي ذلك، وأوراق المحكمة ستكشف الحقيقة للجميع، وبعدها لا حاجة إلى الادعاء والادعاء المضاد.
وهذا يعود بنا إلى منبع التقدم في كل زمان ومكان ... المنبع هو الابداع والعطاء الانساني. فالحضارة الاسلامية نمت وكبرت في عصرها الذهبي لانها فتحت المجال لكل أنواع العلوم والفنون من الهند والصين والاسكندرية واليونان وترجمتها ورعتها وطورتها. وهذا كان حال انجلترا الضعيفة جدا في القرن السادس عشر ثم تحولت إلى أكبر قوة لفترة طويلة جدا، بمجرد فسحها المجال أمام العلوم والفنون والابداعات. وقبل ذلك انطلقت أوروبا من مدن مثل البندقية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لأن تلك المدن فسحت المجال للنهضة العلمية والفنية بالدخول إلى أراضيها.
وحاليا لدينا بلد مثل اسبانيا لديها ناتج قومي يزيد على 800 مليار دولار ولديها عدد نسمة يبلغ 40 مليون شخص بينما جميع الدول العربية بعدد سكانها الذي يبلغ أكثر من سكان اسبانيا عدة مرات ليس لديها ناتج قومي مشترك مماثل.
واسبانيا تعتبر واحدة من أكثر الدول، بل تحتل المرتبة الاولى، في ترجمة الكتب ونشرها... ولم نسمع يوما من الأيام احدا قال إن اسبانيا التي تتصدر العالم بقدراتها في الترجمة والنشر قد انخفض اقتصادها أو اهتز كيانها السياسي... هذا كان حديثا سابقا عندما كانت اسبانيا تحت الدكتاتورية العسكرية وقبل ان تتحرر من ايدي الجنرال فرانسيس فرانكو الذي حكم البلاد بيد من حديد أربعين سنة حتى العام 1975.
أما في عصرنا الحاضر فتتسابق الدول على استقطاب صناعة الصحافة والنشر والإعلان لأن هذه الصناعة رابحة وهي المؤشر على قوة أي بلد ناجح اقتصاديا وسياسيا. فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لها أثر كبير على العالم ليس لأنها دول كبرى فقط ولكن لأن لديها صحافة ونشرا وابداعا أيضا. وفي بريطانيا يعتبر الاعلام مهنة يتمناها كل ناجح ويسعى إلى مزيد من النجاح، وليس كل شخص يود ان يعامل كمجرم يرسل إلى المحاكم لأي سبب.
وفوق هذا وذاك فإنه لا توجد ديمقراطية واحدة في عالم اليوم تعتبر مخالفات الصحافة والنشر «جرائم»، وانما تحولها إلى المحاكم المدنية ولا علاقة للمحاكم الجنائية بها. المحاكم الجنائية تخصص للجرائم التي تهدد المجتمع مثل السرقة والاغتصاب والتزوير والقتل... وغيرها. والصحافي ليست له علاقة بهذه الأمور، ومن يحاول صف الصحافي والناشر والكاتب والمبدع والمثقف مع مهربي المخدرات والقتلة والسراق ويحاكمهم في «المحكمة الجزائية الكبرى» انما يقضي على منبع التطور والازدهار والتقدم في بلده.
لعلنا وكما يقول المثل البحريني «نؤذن في خرابة» لأنه ليس هناك من يهتم بما يقوله الصحافيون (عفوا المجرمون) فلقد قلنا وكتبنا وحاورنا وأوصلنا اقتراحاتنا المكتوبة الى أعلى السلطات وبقي علينا الآن حضور المحاكمات..
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 299 - الثلثاء 01 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الأولى 1424هـ