في خضم القلاقل التي تبدو على سطح الحياة السياسية العربية بين الفينة والأخرى، غالبا ما تتردد في أجهزتنا الإعلامية العربية، وخصوصا الرسمية منها عبارات من نمط «الدفاع عن الأمن الوطني»، أو «حماية أمن المواطن» أو سواها من العبارات التي تبيح، في كثير من الحالات العبث بمفهوم الأمن الوطني، وتشتت ذهن المواطن عن المدلول الحقيقي عن هذا الأمن.
على نحو شمولي يقصد بالأمن الوطني، أو القومي، حماية مقدرات البلاد من الأخطار سوية مع مواردها المادية، بما يشمل من موارد طبيعية واقتصادية وبشرية. وهذه الأخيرة تشمل سلامة المواطن من صحة وتعليم وقيم. وينقلنا ذلك إلى القائمة الرابعة التي يرتكز عليها النطام الأمني لبلد ما، وتلك هي قدرة النظام على تحقيق الاستقرار الشامل والأداء الوطني بما في ذلك الحفاظ على مقومات البيئة الوطنية وصيانتها من الهدر أو التبديد.
لكننا هنا لسنا بصدد الحديث عن التهديد الأمني الذي تمثله قوة خارجية على دولة أخرى. الحديث هنا ينصب على الأمن الداخلي لبلد ما، والتهديد الأمني له من قبل مواطني هذه الدولة، أو أحيانا قاطنيها؛ هذا الأمر يقودنا إلى ما أصبح يعرف اليوم في القاموس السياسي بالأمن الإنساني الذي يقوم أساسا، وبالدرجة الأولى على ضمان وصون الكرامة البشرية وكرامة الإنسان، على أن يترافق ذلك تأمين حاجات المواطن الأساسية، معنوية كانت أم مادية. تحقيق ذلك لايمكن ان تصل إليه المؤسسات الأمنية المتعارف عليها، نظرا إلى احتياجه لخطة طويلة الأمد، تكاد تكون مستمرة، يقع على عاتقها ضمان سيادة القانون، بعد أن يتم تأمين حقوق المواطنين والمساواة بينهم.
من هذا المنطلق يكتسب مفهوم الأمن الإنساني أهمية متزايدة في المجتمعات النامية الباحثة عن نظام أمني يوفق بين الإجراءات الأمنية المتعارف عليها تقليديا والتي تعبر عنها مجموعة من القواعد القانونية والنصوص الإدارية التي تبيح للدولة، أوبعض مؤسساتها التعامل بشكل بيروقراطي مع بعض الظواهر الإجتماعية أو السياسية التي قد تبدو، في إطارها الخارجي أنها تهديد للأمن الوطني، إلى المعالجة الشمولية التي تعنى أساسا بالأمن الإنساني، بما يعنيه ذلك من حفظ لكرامة الإنسان وصيانة لقيمه وتنام لاحتياجاته الضرورية.
ولا يختلف المفهوم الأمني عن سواه من التعبيرات السياسية الأخرى التي تطورت بالتطور الذي عرفته المجتمعات البشرية، وتعقدت انسجاما مع التعقيدات التي باتت تشوب العلاقات الدولية أو القوانين التي تنظم العلاقات داخل الدولة الواحدة.
وتزدحم صفحات الإنترنت بمئات الملايين من الموضوعات الغنية والمشوقة التي تتناول مسألة «الأمن القومي» من مداخله المختلفة، والتطورات التي عرفها هذا المفهوم خلال العقود الماضية. لكني، وهو أمر يثير بعض العجب وجدت في تراثنا العربي، ما يمكن أن ينير طريقنا المعاصر نحو مفهوم راق لمصطلح «الأمن الوطني»، من أمثال نصين عرضهما عبدالكريم أبازيد ، قال فيهما: «إن أقدم نصين حصلت عليهما بشأن تشكيل أول أجهزة للأمن هما ما ورد على لسان أبي جعفر المنصور وما ورد على لسان نظام الملك حاكم إصفهان».
كان أبوجعفر المنصور يجلس يوما مع أعوانه فقال لهم: «ما أحوجني إلى ثلاثة نفر: صاحب خراج يستقضي ولا يظلم، وقاضٍ لا تأخذه في الحق لومة لائم، وصاحب شرطة ينصف حق الضعيف من القوي. وصمت برهة ثم أضاف: وصاحب بريد يأتيني بخبر هؤلاء». أما نظام الملك حاكم إصفهان الذي كان أهم من الخليفة آنذاك، حتى درج القول (إصفهان نصفي جهان)، أي إصفهان نصف الدينا. فقد توجه إلى عمر الخيام قائلا: «أأستطيع أن أسألك أمرا؟ ولم يدعه نظام الملك يبدي رأيه، بل تابع حديثه قائلا: أعلم أنك كتوم قليل الميل إلى الكلام، وأعلم أنك حكيم وعادل ومنصف وأهل لتمييز الصواب من الخطأ في كل شيء، وأعلم أنك جدير بالثقة: أود أن أضع بين يديك أصعب المهمات. لقد عينتك (صاحب الخبر)».
- (صاحب الخبر) أنا، رئيس الجواسيس؟ رئيس مخابرات الإمبراطورية. «لا تتعجل الجواب، فليس في الأمر تجسس على الصالحين، ولا دخول لمنازل المؤمنين، وإنما فيه سهر على راحة الجميع
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2313 - الأحد 04 يناير 2009م الموافق 07 محرم 1430هـ