شهد الواقع العربي في العقود الثلاث الماضية صعودا لخطاب وتناميا لجهود تصب في مساحة المرأة والسياسة، وهو أمر لافت للنظر في ظل غياب السياسة أصلا عن كثير من أرجاء عالمنا العربي، وسيطرة النخب على إدارة السلطة بما لا يستدعي في تقديرها سياسة بمعنى توازنات وتفاوض ومقايضات ووصول لحلول وسط ومراوغة متبادلة بين أطراف النخب في اقتسامها للسلطة وهكذا. هناك هيمنة وإمساك بمقاليد الحكم وبعض الديكور هنا وهناك لو تأملنا فيه ودرسنا الجذور الاجتماعية والاقتصادية للاعبين في ساحته سنعلم أن «المسألة في بيتها» وأن السياسة ملف ضائع وسط كل الضجيج الذي نراه على الساحة العربية.
وسط هذا الخضم يبدو من الطريف صعود خطاب المرأة والسياسة وحقوقها السياسية، وقد كتبت في أكثر من مقال أن القضية ليست قضية المرأة بل إن قضية المرأة هي قضية الديمقراطية، لأن المرأة لو حصلت على «حصة» معتبرة من مقاعد برلمان غير ديمقراطي فإن حركتها الاجتماعية والسياسية ستكون خصما من الزخم الديمقراطي وإضافة لرصيد الاستبداد، وليس على هذا خرجنا من بيوتنا نناضل عبر المئة عام الأخيرة لنكون شريكات في الأوطان وفي بناء النهضة والعمران. لكن هذا لا يعني السكوت عن تهميش المرأة البتة، بل ربط نضالها هذا بنضال أوسع للمشاركة السياسية والحقوق الدستورية والحضور الشعبي في تقدير المصالح الوطنية وفي صنع القرار الداخلي والخارجي.
ولو أن مجلس الأمة أو مجلس الشعب أو أيا ما كانت تسمية المجلس الرابض في ميدان في قلب عاصمة عربية - أقول لو أنه امتلا عن آخره بالنساء فإن هذا لن يجعله برلمانا ديمقراطيا بل قد يكون حشد النساء لملء المقاعد القيادية في ظل منظومة غير ديمقراطية هو تزيين للصورة و... تأنيث للاستبداد. ونحن لا نريد استبدادا لا مؤنثا ولا مذكرا، ولا ندافع عن نون النسوة من أجل عيون النحاة وأهل اللغة بل من أجل نهضة الوطن.
في ظل هذا الخضم العرمرم من المقالات والدراسات والندوات والمؤتمرات غاب الحديث عن المرأة والثقافة، فالثقافة هي القاعدة الصلبة لأي مجتمع سياسي، والمرأة لها ميزة نسبية بحكم بنية المجتمع الإسلامي ومركزية الأسرة فيه، فهي عمود التربية التي تقوم فيها بثلاثة أرباع الجهد والجهاد، لذ أوجب لها ثلاثة أرباع البرّ بنص الحديث النبوي عن بر الوالدين، ولو أنها أرادت أن تصرف ربع الجهد الباقي بعد تربية الهمة في تنمية الهمة في المجال العام أو الاقتصادي أو السياسي فإن هذا يكون مصدر قوة للأمة لا شك.
المرأة دورها الثقافي ليس فقط في الإبداع الأدبي أو المجال الشعري أو الساحة الإعلامية، فهذه أدوار النخبة النسائية، ونسبة المبدعات من النساء لن تتجاوز في أي مجتمع 10 في المئة، لكن ماذا عن الـ90 في المئة الباقية، نحن النساء الأمهات العاملات اللاتي يقضين اليوم كما تقضيه النحلة تتنقل في الرياض بين الأزهار وتصنع من الرحيق عسلا مصفى سائغا للشاربين؟ أين دورنا من الثقافة بالمعنى الشامل؟ أي بناء منظومة القيم والأعراف والرؤى التي تحكم المجتمع؟
هل العوائق التي تقف في وجه القيام بهذا الدور الثقافي الأعمق الذي يتضمن التربية لكن لا يتقصر عليها عوائق سياسية هي الأخرى؟ هل نحن في حاجة لتغيير القوانين كي نعيد للتقاليد الاجتماعية التراحمية في سلوكنا اليومي ونحن نؤسس لعادات وأعراف كل أسرة من أسرنا فنكافح ثقافة الاستهلاك والتفاخر التي أهدرت الادخار كقيمة وكرست البذخ والترف والسرف في حياتنا اليومية والاجتماعية؟
هل نحن في حاجة لقرار سياسي كي نقبل لبناتنا هدايا أكثر تواضعا عند الزواج وحفلا دافئا في البيت بدلا من حفلات الفنادق ذات التكلفة الفلكية والطقوس الصارمة لمنظمي تلك الحفلات التي صارت أشبه بالطقوس الدينية!
هل نحن في حاجة لحملة قومية كي نفتح خزائن الطعام وننظر ماذا فيها ونفتح غرفنا ونضع كل ملابسنا التي نستعملها ولا نستعملها أمامنا وننظر كيف أسهمنا نحن النساء في تكريس ثقافة تقوم على المباهاة والتفاخر بالمظاهر والحلي ونحن أتباع رسول نهى عن الترف والسرف ونهى عن لباس الشهرة وكان ينام على سرير متواضع ويخيط نعله؟
المرأة هي التي تشكل الثقافة اليومية للبيوت وهي التي يمكنها أن تعيد إحياء قيم المجتمع على حسب قيم السوق التي اجتاحت مجتمعاتنا العربية وأزعم أنها سبب رئيسي في شغل المرأة عن المشاركة الاجتماعية والتنموية والسياسية الأوسع.
قل لي ما هي أولوياتك وشواغلك وما هي موضوعات صراعاتك اليومية أقل لك من أنت... وعبر التجوال والحركة في مجتمعات عديدة في أرجاء العالم العربي شعرت بغربة عن ثقافة المرأة في الطبقات الوسطى والعليا التي صارت ثقافة التركيز على الظاهر وليس الباطن بما يكرس لدى الأجيال الجديدة نوعا من الشره وتنافسا على الاستهلاك والشراء يدمر كثير من قيمنا وعاداتنا العربية... كل يوم.
أذكر أن ابني الأصغر وقف فوق رأسي ذات مرة وأنا أعد لمحاضرة جامعية لليوم التالي وقال لي: «ماما... عايز فلوس!» ... قلت له لا بأس لكن لماذا؟ فقال لي جملة أوضحت لي الفارق بين الأجيال والتحول الثقافي الذي نمر به، قال: «أريد أن أشتري!»... واستوقفتني تلك الجملة فرفعت عيني ونظرت له في عينه وقلت له: «تشتري ماذا!» فقال: «أشتري!»... وأدركت أن الثقافة التي نعيش في ظلها مع العولمة قد جعلت محض الشراء غاية، بعد أن كنا نقول في طفولتنا أريد أن أشتري حلوى أريد أن أشتري مشروبا مفضلا وهكذا اليوم أبناؤنا يقولون نريد أن نشتري وكفى - والمقصود لا يهم ما الذي سيشترونه بل المهم: فعل الشراء.
«متعتنا في التسوق!»... هو الشعار المكتوب على إعلان كبير على الطريق إلى أحد المركز التجارية الكبرى بالقاهرة.
محاضرة كاملة ألقيتها في الكلية لطلابي في اليوم التالي عن هذا الشعار ودلالته في المجال العام والرسالة التي يبثها في الفضاء المدني، وأنه في مجتمع تريد المرأة فيه أن تحصل على حقوقها السياسية يجب أن تحتل الطرقات لافتات مثل « كرامتنا في المشاركة»... أو: «نهضتنا في الديمقراطية»... وليس متعتنا في: التسوق. وأن القيم المتعارضة بينها مباراة صفرية، تتآكل قيم المسئولية الاجتماعية والسياسية حين تعلو قيم المركزية الفردية والمتعة الشخصية - بدون التوازن الذي ضبطه النسق الأخلاقي الإسلامي.. لكننا أضعناه.
إن الثقافة ليست شعارات كبيرة عن دور المرأة في صناعة الحضارة، الثقافة تفاصيل يومية من السلوكيات والتصورات والمقولات والأمثال الشعبية التي تختزن الحكمة وتختزن منطق ولغة التعامل الاجتماعي، وهي كلها أمور صارت غائبة عن بيوتنا لذا صارت غائبة عن مجتمعاتنا. الثقافة أدب رفيع في التعامل بين الناس يبدأ من الأسرة التي تمسك بزمام مجالها المرأة لتصب في فضائل مدنية هي التي يتأسس عليها المجتمع المدني والتحول الديمقراطي.
الثقافة عادات تحدد الأوقات ومحتوى هذه الأوقات، فتقرر امرأة أن تقضي العيد في وطنها لأن العيد أسرة ممتدة وأهل وأقارب وزيارات وود وتبادل نصيب من الأضاحي، في حين تقرر امرأة أخرى أن تسافر لأنها ليست أقل من زوجة أخيها أو أخت زوجها فتخرج الأسر خارج الوطن وتتآكل الثقافة وتنشأ أجيال لا تعرف ماذا يجب أن نفعل في العيد وفي المواسم وما هي طقوس الميلاد والموت في مجتمع نسجت ثقافته هذه التفاصيل التي تحدد مجتمعة معنى الهوية.
هذه هي البنية التحتية للثقافة التي نبني عليها مجتمع نهضة وتجارب ديمقراطية راسخة لأنها متأسسة على نسيج اجتماعي متماسك، ومن حق المرأة أن تطالب بمقعدها في السياسة لكن من واجبها ألا تترك مقعدها في الثقافة شاغرا وإلا توشك السياسة أن تتهاوى إذا تهاوت أعمدة الثقافة، ولا يبقى لنا إلا نماذج مستعارة للنهضة والتنمية والديمقراطية بعد أن ضاعت قوة وطاقة «المعاني»... وبقيت لنا برودة «المباني».
المرأة والثقافة واستعادة العافية الثقافية والاجتماعية نحو تأسيس شراكة ديمقراطية ملفات لا تنفصل ومسئوليات لا تنفك، والمرأة الأم/ المواطنة امرأة متكاملة لا تقبل القسمة، ومهمة الثقافة عند أطراف أصابعها وملك إرادتها، ومن هنا نبدأ
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2313 - الأحد 04 يناير 2009م الموافق 07 محرم 1430هـ