عندما اكتسح الاسكندر الطاغية الأكبر العالم القديم، وسيطر على الشرق ودانت له فارس، وادعى كهنة بابل انه من نسل الآلهة، أطلق على نفسه «سيد آسيا» و«أسد فارس الهصور»! وفي قمة الإحساس بالنشوة أراد أن يفرض على الاغريق عادة السجود التي كانت سائدة في البلاط الفارسي القديم، فقاوم الاغريق... وعارضوها بشدة، وأظهر بعضهم استياءه وغضبه، بل إن أحد قواده فعل ما هو أفظع من المعارضة، فعندما سمع الاسكندر يتلو عليهم أمره بالسجود استولت عليه نوبة من الضحك! وأخيرا اتفقوا معه على أن يقصر استخدام تلك العادة الآسيوية على الآسيويين فقط!
سياسة قطع اللسان
وأخيرا أطل علينا محمد سعيد الصحاف طلة غير محمودة، أثارت الأحزان من جديد. رجل مبعثر كشظايا الزجاج المكسور، أين منه تلك العنتريات قبل التاسع من أبريل/ نيسان، حين كان يتحلق حوله المراسلون وسط بحر من الميكروفونات، وهو يتفلسف بتلك الكلمات الرنانة التي لا تجدها حتى في «القاموس المحيط» أو «مختار الصحاح»...! وحيث كان يهدد من لا يعجبه بقطع لسانه مرة واحدة ومن دون خجل أو استحياء!
اليوم يجلس فوق كرسي عارٍ، حتى لسانه يخذله، حتى الكلمات تخجل أن تخرج من بين شدقيه الواسعين. يحاول المراسل استنطاقه فلا يجد غير الإحالة على التاريخ، والملهاة انه لا يدرك حتى الآن انه أصبح من مآسيه، مثلا دامغا للمسئول العربي الذي يصر على أفعاله بكل تبجح وتنفج، فلا هو آسف بعد كل تلك الخديعة الكبرى ولا ندمان.
مأساة الصحاف انه كان باعترافه يعتمد على معلومات غير صحيحة، كان يعيش في وهم كبير، وعندما تهاوى الصنم وتكشف الواقع عن أسطورة تهون دونها كل الأساطير، إذا به يصمت صمت أصحاب القبور، الجماهير العربية كانت تنتظر إجابات على الأسئلة الحائرة، ولكن... كل الاجابات لم يحن وقتها، وكل الحقائق لم يأت أوان كشفها، وعلى «الأنعام» العربية التي تسمى جماهير أن تأكل التبن وتصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
العقلية لم تتغير... وهو في السلطة كان يهدد بقطع ألسنة من لم يعجبه، واليوم وهو في وضع مهين خارجها لم تتغير نظرته إلى «الديدان»، التي لا تفهم، ولا يراد لها أن تفهم، ويجب أن تبقى مطمورة في التراب... حتى يتفضل حضرته ويتفرغ لكتابة «الحقائق» الكبرى... ولم يدر «سعادته» انه لم تعد الجماهير تنظر إليه بعد اليوم بأكثر من «صرصور» صغير، خرج من بالوعة البعث، ليدب زحفا على الرأس إلى الأميركان، الذين لم يروا فيه ما يستحق البقاء فيها.
اطمئنوا... فلن يقول هذا «الطرطور» شيئا مفيدا أو خطيرا... لأنه ليس أكثر من «جندي» فوق لوحة شطرنج ، مارس دور الخداع لأنه كان مخدوعا كبيرا في أحسن الأحوال. ولكن كل خوفي أن نفتح اعيننا ذات يوم على دورٍ لعبه الصحاف في اللعبة الكبرى، التي يسمونها «لعبة الأمم».
ما الذي يعنينا من الصحاف بعد اليوم؟ صدقوني انه لم يعد يساوي خردلة منذ التاسع من أبريل. عبثا حاولت الفضائيات استنطاقه، فهو لم يكن لينطق بشيء مهم لولا تلك البزة الخضراء التي كان يرتديها، فإذا نزعت عنه عاد إلى حجمه الطبيعي، فأرا مذعورا يخاف من ظله. ولكن القضية الأكبر التي يثيرها ظهور الصحاف ربما تتنثل في ضرورة مناقشة قضايانا بشكل جديد. سياسة الصحاف هي المأساة، التي ما كانت تصدق إلا ما تريد تصديقه، وما لا يعجبها ترفضه، فتضل وتضلل غيرها. فعندما كانت الدبابات الأميركية تسيطر على مطار بغداد كان حضرته يصر على ان الجنود العلوج محاصرون فيها! وعندما دخلت عليه بغداد من أقطارها إذا به يصرح انهم يولون الأدبار في الصحراء.
السياسة الخالدة
مأساة الصحاف انه كان يريد أن تسير الأمور في العام 2003 على نمط ما اعتاده في السبعينات، لم يدر ان العصر غير العصر، والزمان غير الزمان، ولم يدرك أن هناك شيئا اسمه شبكة الانترنت، وان هناك فضائيات تلاحق الخبر أينما كان، وتذيعه بعد حدوثه بدقائق محدودة.
الرجل اعتاد على ألا ينشر خبرا إلا بعد تصريح رسمي، ولا يسمح بنشر رأي لا يعجبه، ولا يكتب صحافي رأيا إلا بموافقته، وإلا فليبحث له عن عمل آخر.
لم يعد الصحاف يساوي خردلة، كل قيمته في سياسته التي تعيش وتعشعش بيننا حتى باتت إرثا عربيا لا يقاوم ولا يساوم! سياسة تستعصي على النقد أوالمرجعة والتمحيص.
حتى المطالبة بحفظ حرية التعبير والدعوة إلى احترام الحرية يتم تصويرها وكأنها رغبة في سيادة الفوضى والخروج على القانون. وأخشى أن يكون هناك حوار طرشان، أو سوء فهم متعمد في هذا السياق، وإلا ما سر هذه التصريحات المتكاثرة عن «الحرية المطلقة» وضررها و... إلخ، وكأن الصحافيين في البحرين من البلاهة بحيث يطالبون بحرية ليس لها قيود أو حدود. حتما لم يطالب أحد بذلك، فالكل يعرف دوره وقدرته... ولكن ليس مقبولا ان يحاكم الشخص على رأيه، او توضع له خطوط حمراء لا ترتبط بمصلحة وطن ولا ضمير مواطن.
قبل أيام ومع وصول التحذيرات الجديدة إلى الصحافيين، تساءل الكثيرون: ما المقصود من هذه التعليمات؟ وأعيد طرح الأسئلة من جديد. إن لم يكن هناك سوء فهم فهناك خلط متعمد للأوراق، فلم يكن أحد من القطاع الصحافي المسئول ولن يكون من الساعين إلى الإضرار بأمن المجتمع وسلامته. ولكن هناك أمورا غير متفق عليها، وهناك قضايا مازالت مثار جدل ورد بين الصحافيين والوزير بما يرتبط بأصل دور الصحافة من الأساس: مثلا لا ندري كيف يؤثر عرض الصحافة للرأي القائل بوضع قانونين للأحوال الشخصية على الوحدة الوطنية بعد نسبته إلى صاحبه؟ وما مقياس نشر ما يتضمن إهانة لدولة أجنبية أو منظمة دولية لها مقر في البحرين؟ كلنا نعرف أن للولايات المتحدة سفارة في البحرين مثلا، وكلنا نعرف أن سياساتها موضع انتقاد شديد وإدانة واسعة بين الجماهير، فهل نشر أي انتقاد لها أمر غير جائز؟ فهذا المقياس هم لا يطبقونه في بلادهم، فلماذا نكمم الأفواه عن نقد سياساتهم كما يوحي بذلك ما جاء في «التعليمات» الجديدة؟و كيف يمكن الحديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد الإداري إذا كانت الصحافة ممنوعة من الاقتراب من مسلك الموظف العام أو المكلف بخدمة عامة؟... وهل يعتبر الاقتراب من الحمى خروجا على القانون بما يهدد بالسقوط في الفخ؟
النقطة الأهم التي أثيرت مرة أخرى هي العلاقة بين الوزارة وبين القطاع الصحافي، لكي لا تكون مصداقا لكلمة لويس الخامس عشر التي أطلقها في العام 1770: « سلطة سن القوانين من اختصاصنا وحدنا بلا تبعة ولا شراكة من أحد»!
التهديدات الجديدة وصلت كما قلنا، ولكن الإشكالات حقا ما تزال تراوح في مكانها. ربما فعل البعض ما هو أكبر من المعارضة حين استولت عليه نوبة من الضحك، فهل نأمل في حل «حضاري» على طريقة اتفاق الاسكندر مع قومه الإغريق القدماء؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ