العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ

«الهدنة» الفلسطينية... ودلالاتها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ليست مهمة بنود «الهدنة» الفلسطينية، ولا مدتها (ثلاثة أشهر)، ولا شروطها (وقف العدوان الإسرائيلي وانسحابه من بعض غزة والضفة)... المهم قدرة الهدنة على الصمود ومنع «إسرائيل» من تكرار اجتياحاتها. فهذه ليست المرة الأولى تنسحب «إسرائيل» ثم تجتاح لتنسحب ثم تجتاح.

سيناريو الاجتياحات والانسحابات الإسرائيلية هي جزء من استراتيجيتها العسكرية التي تخدم في النهاية أهدافها العامة... وهي أهداف تبدو صغيرة إلا انها تصب في مشروع كبير يقضي بانهاك المنطقة واضعافها وتفكيك تضامنها ليسهل في النهاية عليها تطبيق خططها التي لا يظهر منها سوى القليل.

والهدنة الفلسطينية ليست جديدة على ساحة الصراع ضد المشروع الصهيوني. ففلسطين شهدت منذ عشرينات القرن الماضي عشرات أشكال المقاومة وفي كل فترة تعقب الانتفاضة هدنة قصيرة ثم تعود المواجهة من جديد. ومن يعود إلى التاريخ يستطيع تحديد العشرات من أشكال الدفاع الفلسطيني عن الأرض والحق. حصلت انتفاضات مدنية ومسلحة في فترة الانتداب البريطاني منذ العام 1916 إلى العام 1947 وانتهت كلها باتفاقات هدنة كانت تحصل بين واحدة وأخرى انتفاضة ردا على ارتفاع موجة الهجرات والاستيطان. إلى أن انتهت مجموع تلك الانتفاضات واتفاقات الهدنة بقرار التقسيم الدولي الذي اعقبته حرب 1948 وانتهت المسألة بنكبة كبرى أدت إلى طرد الفلسطينيين لا إلى طرد المستوطنين.

بعد النكبة كسرت المقاومة الداخلية واحبط ما تبقى من فلسطينيين بسور من الحصار والتضييق والقهر. آنذاك عرفت فلسطين سلسلة أشكال من المقاومة اعتمدت على تكتيك «التسلل» من قطاع غزة الذي وضع باشراف مصر والضفة الغربية التي اعتبرت جزءا من المملكة الاردنية الهاشمية بعد مؤتمر اريحا.

عمليات «التسلل» ردت عليها «إسرائيل» بهجمات طاولت المخيمات والغربي وانتهت مرارا بمجازر ضد المدنيين لإرهاب الفلسطينيين وتخويفهم من خطورة الاستمرار في سياسة المقاومة.

استمر الحال إلى ان وقعت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 وخسرت مصر غزة وسيناء، والأردن الضفة الغربية، وسورية الجولان. وفي فترة (ما بعد الهزيمة) انتعشت فكرة المقاومة وعاد «التسلل» مجددا وسيلة من وسائل المواجهة. وتكرر الرد الإسرائيلي واستقر الوضع السياسي على العودة إلى العمليات العسكرية المحدودة داخل فلسطين. وهي نادرة وقليلة وكان معظمها يقع على الحدود المجاورة وتحديدا في لبنان والأردن وسورية اطلق عليها آنذاك تعريف «عمليات القشرة». اي انها عمليات لا تصل الى العمق الاسرائيلي بل تقتصر على مواجهات محدودة على خطوط الهدنة الدولية.

أدت «عمليات القشرة» إلى ردود فعل قوية من جانب «إسرائيل». فكانت ترد على أية عملية صغيرة على حدودها بحرب صغيرة ضد قرى المنطقة المجاورة واحيانا كانت القوات الجوية تقصف مراكز مدنية في عمق الدول وعواصمها. حصل الأمر مرارا في الأردن وتكرر في سورية ولبنان. وأعطت ردات فعل «إسرائيل» العسكرية مردودها لناحية الحد من تلك العمليات وأحيانا وقفها إلى فترة محددة. وبسبب استمرار الضغط والضغط المضاد في ظل انعدام الوزن العربي وعدم الاتفاق على قرار موحد واستراتيجية مشتركة لجأت كل دولة عربية على الحدود الفلسطينية إلى معالجة مشكلتها بالاسلوب الذي يناسب مصالحها الخاصة.

وهكذا انتهت «عمليات القشرة» إلى سلسلة مواجهات داخلية فلسطينية - عربية ومعارك كثيرة امتدت إلى عشرات المخيمات والمدن وانتهت إلى تقليص النشاط الفلسطيني بخروج المقاومة من الأردن بعد مواجهات سبتمبر/ أيلول 1970 التي تكررت في 1971 وانتهت باقفال الحدود الدولية باستثناء لبنان.

تحول لبنان إلى محطة فلسطينية لجأت اليه كل الفصائل النازحة من دول الجوار العربية فانتقل النشاط العسكري اليه وتركز على حدوده الجنوبية وبات نقطة مواجهة يومية دائمة تطورت خلال انفجار الحرب الأهلية - الاقليمية من العام 1975 إلى العام 1982. وتوقفت الحرب الحدودية باحتلال «إسرائيل» بقيادة وزير دفاعها آنذاك ارييل شارون العاصمة بيروت وخروج الفصائل الفلسطينية إلى عدد من الدول العربية بعيدة عن فلسطين بحماية دولية وباشراف أميركي.

الخروج الفلسطيني من لبنان أقفل على المقاومة كل الحدود المجاورة الأمر الذي اعطى أهمية للداخل ورفع من انتباه القيادة إلى وزن القوة الموجود في الاراضي المحتلة وضرورة تنظيمها لاشكال من الممانعة السياسية تنطلق من الارض الفلسطينية وشعبها المحاصر والمحكوم بالاحتلال. فكانت الانتفاضة الأولى التي انتهت بعد فترة من الحرب على العراق وبدء مؤتمر مدريد وتتوجت بتوقيع اتفاق اوسلو الذي قضى بانهاء أعمال الانتفاضة كشرط لقبول «إسرائيل» بتنفيذ الاتفاق.

وتوقفت الانتفاضة وبدأت عودة المقاتلين الفلسطينيين برقابة إسرائيلية وكان الهدف هو تجميع القوة الفلسطينية في مكان جغرافي محدد ويمكن ملاحقتها بسهولة في حال تخطت السقف الإسرائيلي. الا ان «إسرائيل» التي كانت تراقب القوة الفلسطينية على جوارها بدأت تضيق ذرعا بالهدنة والاتفاقات التي وقعتها ولجأت إلى تجاوزها من خلال التشجيع على الهجرة وبناء المستوطنات في المناطق المحتلة التي تجب عليها مغادرتها وفق شروط الهدنة وبنود الاتفاقات.

كررت تل ابيب اللعبة نفسها التي احترفت صنعها في عهد الانتداب البريطاني وانتهت بالتواطؤ في كثير من الاحيان مع المندوبين البريطانيين إلى اختراع «دولة إسرائيل».

الآن وبعد 55 سنة على اختراع «الدولة» تلجأ «إسرائيل» إلى اللعبة نفسها هدنة - حرب - هدنة ثم حرب - هدنة - حرب حتى تصل إلى اهدافها شبه المعلنة وهي «تهويد» الاراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967.

ليست مهمة بنود «الهدنة» الجديدة ولا مدتها ولا شروطها... وانما دلالاتها السياسية في ضوء تجربة تاريخية امتدت على قرن من الزمن. فالخدعة الإسرائيلية لم تتغير وهي الاستفادة دائما من فترات الهدنة المؤقتة لإعادة تجميع القوى تمهيدا لهجوم جديد

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً