العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ

المثقف الأراجوز

حسام ابو اصبع comments [at] alwasatnews.com

يقول إبراهيم غلوم في كتابه «الثقافة وإنتاج الديمقراطية» 2002 - ونعتذر مسبقا عن طول الاقتباس - «وقد خرج من معطف نموذج المثقف الذي اقترن بعقود الكوارث والتحولات نموذج آخر مواز، وهو مثقف ذو تكوين ديني... أصولي، ولكنه يتعاطى الخطاب الحداثي فيلهج بمصطلحات نظرية من قبيل الألسنية والبنيوية والتفكيكية ويقبل على شروح مجتزئة من هذه النظريات فينغمس في ترديدها في منابر الصحافة المحلية، ويثير خطاب هذا النموذج أزمات مفتعلة بشأن القطيعة المعرفية والموقف من المحيط الثقافي السائد. لكن الأعقد من ذلك ما يشكله من مكر الخطاب وانتهازية الموقف... فهو إن شاء أصولي من حيث الاستراتيجية، وإن شاء حداثي يأخذ بجديدات معرفية راهنة، وهو إن شاء مع السلطة، وإن شاء مع المثقف أيا كانت صفوفه... وفي كل الأحوال فإن هذا النموذج غير مأمون الجانب... إنه لا يجرؤ على خوض معارك عملية مع الواقع، وليست له إنجازات ثقافية ملموسة... ويكاد يمارس وظيفته حسب الطلب». انتهى الاقتباس ص 148.

إن التوصيف السابق الذي يشبه فيه المثقف بالأراجوز لا يبدو مستغربا أو بعيدا عن مجريات الأمور كما تحدث... ولذلك فإن من يتحدث عنه / عنهم غلوم أبعد ما يكون / يكونون عما جاء به إدوارد سعيد عن المثقف على أنه شخص «يواجه القوة بخطاب الحق».

إن الصورة السابقة التي تجعل بضاعة المثقف مطروحة في مزادات المتاجرة حينا والمزايدة حينا آخر، هي إحدى الصور التي هجاها سعيد على لسانه مرة، وعلى لسان جوليان باندا مرة أخرى، وبالاقتباس من غرامشي مرة ثالثة، بقوله عن هذه النمطية التي تتحكم فيهم بانضباط قوانين السوق والمؤسسة وآلياتهما، والتي تستخدم دعاية المثقفين لتنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والسيطرة، أي انهم يكافحون بصورة ثابتة لتغيير العقول والأفكار لخدمة مصالح خاصة، بينما المثقفون العضويون، هم أولئك الذين في حال حركة وتشكل مستمر، ولديهم الميل إلى الانقلاب من اليسار إلى أقصى اليمين، ومن أعلى درجات المحافظة إلى أدناها تحررا.

إنهم أولئك الذين يهملون نداءهم الداخلي ويساومون على مبادئهم التي يحددها ويحكم علاقتها نوع الحاجة المتبادلة بإبرام عقد غير ظاهر، من خلال علاقة مصالح نفعية براغماتية، وعلى حساب ماء وجه المثقف الذي يريقه على سطح البلاد أو عند باب الغار أو في أي مكان آخر يجد فيه مصلحته الشخصية.

إن مفهوم المثقف يواجه إشكالات لا حصر لها في ظل انكسار روحي واجتماعي يحيط به ويتلبسه تماما، الأمر الذي يجعله عاجزا عن صوغ أي نمط من أنماط الوعي ذي البناء المتماسك... ما حدا به إلى تفضيل اليأس باعتباره حالة تمنعه من التفاعل الخلاق، فما كان منه إلا أن يقنع بصومعته البعيدة، مكتفيا، كما قال نزار قباني مرة، بتوسيخ الحدائق الغناء بالقمامة.

كما أن حقل تداول مفهوم المثقف من السعة بحيث يصعب الإحاطة به في هذا السياق، فالمثقف ليس ذلك الشخص الذي ما إن يرد اسمه حتى تتقافز إلى الأذهان تلك الصورة التقليدية لشخص نهم القراءة، مفوه الحديث، يتحدث بكلام لا يفهمه أحد، أو يسبغ عليه الكثير من المحسنات البديعية والألفاظ الرنانة ذات الوقع الموسيقي، ويحشد في خطابه أرتالا من المفهومات الفكرية والاصطلاحات النظرية نتيجة حشو دماغه بالأفكار بسبب القراءة... والثقافة بهذا المعنى لا تتجاوز أن تكون في أبعد الحدود مجرد ترف لشخص على استعداد للتنظير صباح مساء في أي شيء وفي كل شيء، إن هذه النمطية من البشر - ويسمون أنفسهم تجاوزا المثقفين - لا تستطيع حتى الوصول إلى تصنيف محمد عابد الجابري حين فحص وصنف المثقفين العرب الأول، إذ حددهم بفئتين هما: المثقفون العضويون، وهم أولئك الذين وظفوا معارفهم في سبيل المنافحة عن تيار من التيارات العقائدية والسياسية المتصارعة. أما الفئة الثانية فهي فئة المقابسات. إنهم فئة ثالثة، هي خليط لا يرسم بوصلة دربها إلا الفتات المنثور في الدروب غير الوعرة...

إن المثقف بوصفه مفهوما قائما برأسه في زماننا هذا يصطدم بوقائع مترهلة على مختلف المستويات، ومن دون إدراك حقيقي لهذه الخطوط المتشابكة بالغة التعقيد سينتفي التفاعل والتعايش، وبالتالي تضيع الحلول في دهاليز معتمة لا قرار لها. ودعك من أولئك - من الجهة المقابلة - الذين يزعمون أنهم خبروا الواقع وعرفوه، وأن الحلول في جيوبهم ينثرونها يمنة ويسرة للسذج ممن يصدقون أي شيء.

لقد توارى المثقف أو لم يولد بعد، المثقف الذي باستطاعته القبول بالصعاب وتمحيصها لمواجهتها بعد ذلك - وهذا لا يعني التسليم بأوهام علي حرب وأضرابه من الذين يتحدثون عن ميتات لأشياء لم تولد بعد ولادة طبيعية من دون مقويات وعلاجات وإسقاطات قادمة من وراء البحار. فسياق الميتات هذا، وباقة الأوهام تلك لا تصف الواقع بمجمله وتنوعه واختلافاته بقدر ما تصف صورة متخيلة لنمطية معينة عرفها، أو سمع عنها، أو قرأ لها... ممن فشلوا في إحداث كوة صغيرة في سياق الحراك بمستوياته كافة.

إن المثقف بوصفه حالة خاصة واستثنائية وبعض نماذجها الناصعة بادية لمن يريد أن يرى، هي حالة مميزة في سياق إنتاج الأفكار، وفي ضوء تشييد التوازن بين عوالم الأحلام والأوهام من جهة والواقع من جهة أخرى... ومن ثم في عملية تشكيل الرأي، ورفع المستوى الثقافي والتعبير عن الضمير الإنساني، لكن ما يحدث ببساطة هو الانسحاب من إطار الفعل إلى التريث والتروي والانتظار وفحص الأجواء، والاطمئنان بدرجة مرضية، ثم الإدلاء بقول له ميوعته التي لا تخفى على أحد.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالمثقف باعتباره واقعا ليس هو ذلك الشخص الوديع، المنبوذ، الذي وقع عليه الظلم، إنه كما يقول غلوم بالضبط من الذين تجري عندهم الأمور وفق حسابات مصلحية بحسب اتجاهات الريح وما تحمله من روائح الفرائس... إن إطلاق حاسة الشم في الهواء، وتمييز مكان الفريسة هو خريطة المضي... لذلك تغيب الرؤية المتجددة للحياة، وتنتفي الرؤية النقدية بحثا عن عالم أقل صخبا. إن المثقف الذي يجرى تجميله وتقديمه بأبهى الصور، كما هي الحال عند عضو مجمع الحرب الأميركي أندري غلوكسمان، هو مثقف بالمعايير التي يراها أولئك الذين يجدون على رأسهم بطحة... ولكن إلى متى سيظل حاضرا... تلك هي المسألة!

العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً