العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ

إشكالية دور المثقف في المجتمع... قراءة للواقع المحلي

منتدى «الوسط» الثقافي يتحاور بشأن:

في فضاء العلاقة التي تحكم المثقف بالدور/ الوظيفة والمجتمع ورجل الدين لاتزال الضبابية أفق المسألة، ومازال التساؤل منطق الإشكالية، إذ لم تكتف الدراسات بأن تشبع فضاء (تلك العلاقة) بالأسئلة، بل بعثت مساءلات أخرى فرعية في مضمونها وأخرى أساسية في أحايـــينها، ما زاد المسألة تعقيدا ولم يسعفها من مأزق اللاحسم...

ولتسليط الضوء على علائقيات المثقف الحساسة، تستوقف المتأمل ثلاثة عناصر تمثل الخطوط المهمة جدا للمثقف وهي: علاقة المثقف مع الوظائف المتعددة وعلاقتــه مع رجــل الديــــن وعلاقته مع المــجتمع.

واقعا كل تلك العلائق تدور حول محور مهم، ما إن يحسم حتى تحسم كل تلك الإشكاليات، بمعنى أن تلك الإشكاليات ما هي إلا وليدة إشكالية كبرى تدور من حول فلكها إشكاليات أخرى فرعية، وتلك الإشكالية هي «دور المثقف». وجليا أن الدور أو الأدوار، مفردات واضحة لكل ذي تخصص ومهنة، إلا أنها إشكالية كبيرة - كما ذكر - في حقل المثقف، ومازال قبض التشدد يهمش دوره في المجتمع وبسط الانفساح يمدد ذلك لمساحات كبيرة، وبين ذينك التناقضين تبقى الإشكالية عالقة لا تجد لها مستقرا في ثبات الرؤية، فمازال الإشكال عالقا يبحث عن نهاية...

المثقف لم يجد نفسه في هذه الإشكالية إلا حراكا تتحرك عبره الجدليات ليستثمرها في المضمار النقدي بصور متعددة.

وفي إطار هذه الإشكالية التي مازالت من دون نهاية، نستضيف رئيس تحرير مجلة «أوان» محمد البنكي، والباحث فيصل السيد لنسلط الضوء على بعض من جوانب هذه الإشكالية المترامية الأطراف...

دور المثقف نظريا وواقعيا

ثمة إشكاليات تدور حول دور المثقف في المجتمع... بداية ما الدور الذي ترون أنه من المفترض أن يناط بالمثقف، وكيف هو واقعا؟ بمعنى، ما المفارقة بين دور المثقف في الواقع وبين دوره نظريا؟

محمد البنكي: سأبني على هذا السؤال الكثير من الأسئلة في البداية، لربما نلتمس فيما بعد مداخل أكثر دقة، لأننا نتكلم عن المثقف الذي تدور في أذهان كل منا مفاهيم مختلفة حوله، فما الذي نقصده بالمثقف؟ من الواضح من المحاور الذي استعرضتها أن هناك فهما للمثقف بنمط ما، أجد اتفاقي مع من وضعها في جانب كما أرى اختلافي أيضا، فبداية من هو المثقف لكي نتحدث عن دوره، وهذا السؤال ليس بسيطا، فقد تتفقون معي على أن تعريف المثقف في حد ذاته إشكالية قائمة بذاتها، فحين ترجع إلى مختلف الأدبيات والمرجعيات الفكرية تجد هنالك نوعا من الاختلافات الكبيرة بشأن تعريف المثقف، اختصارا وتحاشيا للتوغل سأحاول الحديث عن ثلاثة أنماط للمثقف، فنحن نريد أن نتحدث عن الواقع أكثر من الحديث في الجانب النظري، أنا أعتقد أن ثمة ثلاثة نماذج من المثقفين من المهم ألا نقصي واحدا منها، فهنالك المثقف المـلتزم، وأقصد به الملتزم بأدبيات فئة معينة أو حزب معين، الملتزم برؤى وبرنامج سياسي وما إلى ذلك. نمط آخر للمثقف تراه أيضا في الساحة المحلية ذاك هو المثقف الذي يختار أن يلعب دورا في الحياة العامة عبر الالتحاق بصناع القرار ومن خلال الدخول في النسق المهيمن للمجتمع، أقصد «سلطويا»، أنا لا استطيع أن أقول إن هذا النمط خارج الحسابات، ثم هنالك نمط ثالث وهو لا ينضوي تحت أي نسق مما سبق ذكره، أي لا ينتمي إلى أية جماعة ذات برنامج وايديولوجية وأيضا ليس ملتحقا بصناع القرار، هذه الأنماط الثلاثة موجودة واقعا، فحينما نتحدث عن دور المثقف لا أستطيع القول إن الدور في الحالة الأولى هو الدور نفسه في الحالة الثانية وهو الدور نفسه في الحالة الثالثة، إذن نحن نتكلم عن مثقفين وأدوار ولا نتكلم عن مثقف ودور بصيغة المفرد، هنالك تعدد في الموضوع، السؤال المطروح: هل نستطيع الجمع بين تلك التعددية؟ هل نستطيع اختزالها وجمعها في شيء مشترك؟ إذا كنا نريد أن نلتمس نتيجة فعلينا رؤية المشتركات بين هذه الأنماط الثلاثة، المشتركات نجدها في الحس الأخلاقي الذي نستطيع أن نجمع فيه تلك الأنماط ونتضامن عليه، فمثلا حقوق الإنسان من المسائل المشتركة التي تجتمع عليها جميع الصنوف، فسواء كان المثقف في النمط الأول أو الثاني أو الثالث فسيتفق مع ذلك المبدأ وكذلك حق الدولة في السيادة على أراضيها... وعلى هذا فقس، إذن هنالك انفساح في الساحة ومجاميع مختلفة للمثقفين، وأدوار متعددة للمثقف، ويبقى هنالك شيء عام على المثقف أن يتحلى به، وهو الحس النقدي تجاه الأشياء، فسواء كان داخل حزبه أو داخل السلطة أو في المجتمع بصيغة عامة، يجب أن تكون فيه خصيصة جوهرية يتحلى بها وهي أن يتعاطى بشكل نقدي أولا تجاه الأشياء، وبشكل حواري مع من يختلف معهم.

فيصل السيد: واقعا اتفق مع محمد البنكي على التقسيم الثلاثي للمثقف وإن كنت اتحفظ على النمط الثالث المشار إليه وهو الأقرب في تسميته الى المثقف بشكل عام، لأن فيه عمومية وذلك لعدم انضوائه ضمن التقسيمين الأوليين. شخصيا استبعد أن يوجد مثقف لا ينضوي تحت ايديولوجيا معينة بأي حال من الأحوال وإن اختلف هذا الاندراج تحت إطاره سلبا أو إيجابا قوة أو ضعفا، ومن المشتركات التي أشار إليها البنكي أنطلق بأهمية دوره، فحسب تصوري أن الهــــم المشترك هو الذي يجب أن يتوحد حوله مفهوم الثقافة ودور المثقف، وهو دور في غالبيته دور بنائي إن صح التعبير، بما للبناء من مفهوم واسع على جهات متعددة سواء على صعد اجتماعية أو سياسية، ولعلي استطيع أن أعلق على الإلماحة التي ذكرها البنكي بشأن المثقف الملتزم بالإطار الحزبي أو المثقف التابع لصناع القرار بأن ذلك لا يعني ولا يمنع في المحصلة أن يعطي هذا المثقف دورا فاعلا في الحراك الاجتماعي لو وعى دوره في التكتلات وكيف هو واقعه، هذه مسألة نحتاج أن نفتح بشأنها أفقا آخر.

أدوار تـنسـخ أدوارا

هناك مقولة إن الوظيفة الأساسية للمثقف هي النقد في حين أن المثقف الحزبي لا يستطيع أن يمارس نقدا على إطاره... السؤال الذي يدور في فلك هذه الازدواجية هو: هل هنالك دور لمثقف ما ينسخ دور مثقف آخر؟

- البنكي: اتحذر من مقولة شيء ينسخ شيئا، دائما أحاول فتح الأشياء على بعضها وعلى تعدديتها، والحياة فيها من التعدد وفيها من الالتباس وفيها من المزاوجة ما يجعلنا لا نميل إلى الابتسار والتبسيط لينتهي بنا الحال إلى تحاليل بسيطة للأشياء، لنتكلم عن المثقف في أي سوح أخرى، ولنأخذ المشهد الفرنسي مثلا وتحديدا ثورة الطلبة في سنة 68م، كان هناك مثقف مثل سارتر وإلى جانبه في الفكر السياسي مثقف مثل ريمون أرون يحسب على اليمين وسارتر يقود المظاهرات، انظر إلى اختلاف الأدوار لا استطيع إسقاط هذا الفكر ولا ذاك، كلاهما أعطيا في الفكر السياسي. قبل سنتين أو ثلاث استضافت إذاعة لندن إدوارد سعيد في مجموعة محاضرات، كان يتكلم عن مثقف مثل باندا ومثقف من قرامشي، وكيف كان الأول في أفق والآخر في أفق آخر، ليست القضية هي الاختيار.. فالاختيار مسألة مشروعة...

(مقاطعا) عفوا استاذ، أريد أن احدد علاقة المثقف الحزبي التابع لايديولوجيته مع المثقف الناقد، هل يستطيع الأول أن ينقد إطاره؟ فقد يستطيع نقد الآخر المقابل له من دون مساءلة ذاته الجماعية، بينما الناقد يتجاوز ذلك النسق ويتجرأ على نقد الأنا الجماعية من دون وجل... أقرأ في هذين الدورين في الواقع المحلي أن ثمة أدوارا تنسخ أدوارا...

- البنكي: بمعنى؟

هناك تضاد..

- البنكي: بين؟

بين أدوار المثقفين، مثلما ذكرت لك، المثقف الحزبي لديه تعارض في الأدوار مع المثقف الناقد الرافض للأطر والايديولوجيات والمنظومات المغلقة ويستسيغ أن يبقى خارج تلك المحددات، كيف توفق بين هذه اللفتة وبين كلامك؟

البنكي: ربما يوجد ذلك فقط على صعيد الواقع لكن في الجانب النظري ليست هناك مشكلة، قد نستطيع أن نعــزو هذا الواقع بهذه الكيفية لطبيعة الحياة السياسية والحياة الفكرية العربية... ارجع إلى الوراء عقودا من الثلاثينات والخمسينات لأجد أن المد الليبرالي ومن ثم الاشتراكي وبعده الإسلامي، يبطنون ذلك المثقف الذي نسميه المثقف الحزبي، لا يتعاطى بشكل نقدي مع أدبيات حزبه ويبقى مغلقا عليها... لكن البيئات الأخرى لا يوجد فيها ذلك... وهذا تكرار مما حدث في روسيا «الثقافة الكدنوفية» التي تتعاطى مع من يرفض الحزب بطرده وإقصائه، لذلك كل المثقفين الذين تعاطوا الحس النقدي وبدت منهم جسارة على الحزب وجدوا أنفسهم خارجه... المثقف - كما افترضه - يوجد لديه حس نقدي أو ينبغي له ذلك، فسواء المثقف الديني أو ذلك المثقف الآتي من محاضن اليسار أو أي اتجاه آخر... المثقف الذي لا يستطيع أن يتعاطى في حياته بشكل نقدي أتصور أنه يقف على أرض رجراجة... ولو تحدثنا عن تجاربنا المحلية السابقة فلا أجد تجارب سارة في هذا الموضوع، فمثلا في الحركة الوطنية /اليسارية بالبحرين وتاريخ انشقاقاتها تجد أن ثمة خللا... فمقولات رموز تلك الحركة اليوم تلوح بشكل بارز بأن ثمة أخطاء ونظرات قاصرة آنذاك... والمثقف الديني اليوم يواجه المشكلة نفسها وبالضراوة نفسها، فإذا كنت تتحدث عن الواقع بما هو واقع بعيدا عن الجانب النظري فأنا اتفق معك فيما ذهبت إليه... لكن هناك تباشير ونتمنى من خلال المتغيرات أن يتم التعاطي مع الأطر بشيء من المرونة.

- السيد: لابد للمثقف أن يكون ناقدا بلحاظ شيء واحد، أي نوع من الثقافة نحن نتكلم عنه؟ أحيانا تكون الثقافة مجرد تلقي ثم تبني.. فهل هذا المثقف خرج من طور التلقي إلى طور آخر يستطيع أن يبدع فيه ويصنع ثقافة؟ إذا وصل إلى هذا المستوى فمن الطبيعي أن يتحول إلى ناقد، ناقد لذاته وما بين يديه أيضا... يراجعهم والمراجعة نقد في الكثير من الأحيان...

هل هذا ينسحب على المثقف الحزبي؟

- السيد: المثقف الحزبي في الواقع ينقسم إلى قسمين في تصوري: الأول أن تكون لديه ثقافة ما قبل ثقافة الحزب، والثاني ما بعد الحزب، فإذا كانت ثقافته صنيعة الحزب فهذه مشكلة ويصعب على هذا النوع الخروج لنطاق النقد، أن يكون انتماؤه حرا مبنيا على إدراك ووعي الانتماء، فمرة أنتمي وعيا مني للانتماء ومرة أنتمي إلى موجة جرفتني في الساحة... أرجع المشكلة إلى الانصهار التام في الحزب ذاته والذوبان ضمن العقل الجمعي وفي هذه الحال قد لا يعطي لنفسه مجالا لنقد ما هو عليه أو لنقد الحزب ورمزيته.

العادات والتقاليد

وتأثيرهما على وظيفة المثقف

العادات والتقاليد موضوع ذو صلة بما ذكر، كيف حدت العادات والتقاليد من ممارسة نقد المثقف للمنظومة الفكرية المتربي في أحضانها، أو القاطن في شعابها؟ وكيف حدت من نقده للمجتمع؟ هل هناك تأثير سلبي أو إيجابي على المثقف في هذا الشأن؟

- السيد: بالنسبة إلى العادات والتقاليد وتأثيرهما على المثقف، هنا تأتي مشكلة فهم بأية كيفية يتم التأثر وإلى أية درجة يسلم وينضوي تحت سلطة هذه التقاليد؟... لنفترض أن المثقف يعي هذه التقاليد وعيا ناضجا وسلم بها، فهذا لا يختلف عن اعتياديته، أما إذا اصطدمت تلك النقودات بالأعراف والتقاليد فهل لدى المثقف القدرة على الصمود؟ هنا نلحظ شيئا وهو أن بعض العادات والتقاليد لا تمس التأصيلية في فكر المجتمع نفسه وليست لها مدخلية في التشريع، فيسهل على الكثيرين نقدها... الخطورة في ما لو وضع المثقف نفسه في موقع قد لا يقبل منه ويعارض بحجج كثيرة.

البنكي: ينبغي أن نكون منسجمين مع قول ذكر منذ قليل وهو أن للمثقف خصيصة جوهرية وهي الحس النقدي للأشياء ليقيم معها علاقة متوترة تكون حصيلتها. أعتقد أن تلك العلاقة هي بالضبط العلاقة بين الثابت والمتغير، ولابد أن نتحلى بالسماحة في هذه المسألة لأن العلاقة ستكون جدلية، فالعادة حينما تكون قوية فلن يفلح الفكر في تجاوزها والفكر حينما يمتلك مبرراته فسيمتلك شيئا من التغيير...

كما يبدو أنك تشير إلى نوع من الانحاء إلى العاصفة، هل تقصد ذلك؟

- البنكي: لا أقصد هذا الشكل البراغماتي في الأشياء، أقصد أننا يجب أن نترك المسألة لعلاقة اختبارية، فمثلا البعض يطرح عدم مناقشة كل شيء في الفكر الإسلامي، أنا أؤمن بأن الفكر الإسلامي وعلى مدى 16 قرنا لم ينهزم في حوار مفتوح، فبالتالي أفتح كل النوافذ ليطرح كل واحد منا ما لديه، ما المشكلة؟ فأي طرح صحيح سيأخذ مجراه وإذا لم أعطه الفرصة اليوم فسيأخذ مجراه غدا، وإذا كان الطرح مبنيا على هشاشة فهذا الفكر الصامد وعلى مدى ستة عشر قرنا لهو قادر على التعاطي معه بالدينامية نفسها التي تعاطى مع مثيلاتها في السابق، وبالتالي لا ينبغي أن نتـخوف من الأفكار، نعم ربما تكون الأفكار جديدة ومخيفة وصادمة، لكن لا يعني أنها بالضرورة خطأ، ومادام الحديث ينساق للإطار الديني فيمكن القول إن بعض الفقهاء رفضوا بعض الأفكار والمستجدات، بل وخرجت في شأنهم فتاوى تحرمها، فمثلا تعليم البنات وقف ضده من وقف لكن بعد ذلك جرى مجرى طبيعيا وعلى هذا فقس، فالمسألة مسألة تدافع ومن يثبت وجوده، وعلى صعيد الأفكار أزعم أنها بالشكل نفسه... العادات قد تحد من الممارسة النقدية لكن لا يعني ذلك أن البديل هو نفي الحس النقدي.

الداعية / رجل الدين والمثقف... تقابل أم تنافر أم تتمة؟

هذا الحديث له صلة من جهة بالداعية، وللحديث عن الداعية وعلائقه بالمثقف نسأل: هل المثقف يعتبر في الضفة المقابلة للداعية؟ أم أن كل واحد متمم للآخر؟

- السيد: سبق وتكلمنا عن دور المثقف، وبلا شك ثمة تقاطع بين دور المثقف ودور الداعية، ويتفرد كل من الداعية والمثقف ببعض الخصائص، وأنا أعود هذا الكلام إلى إيماني بأن المثقف بمعناه الشمولي الواسع يخترق الكثير من آفاق ومجالات الفكر ونحن نتفق على ذلك. يبقى دور الداعية أو المرشد الديني أو المتشرعة. نحن نعلم أن المتشرعة لم يصلوا إلى هذا الدور إلا عبر قنوات كثيرة وعبر آليات قد تأخذ من بعضهم ثلاثين أو أربعين سنة من الدراسة في مختلف الفروع التي أنتم على علم بها، المحصلة أن كلاهما - المثقف والداعية -يلتقيان في إقامة وتوازن المجتمع، ويبقى المثقف متمما للداعية بل في بعض الظروف والمواقف يصبح المثقف أنصع ممن يتبنى تلك الهيئة. أقول لابد من وجود كلا الدورين مع الاحتفاظ بخصوصية كل منهما، لاسيما الداعية بوصفه متخصصا... ولو تدخل كل واحد منهما في شأن (وظيفة) الآخر لأصبحت لدينا مشكلة... وأفترض أن الداعية لابد أن يكون مثقفا وإلا ستكون الدعوة ناقصة، والمحصلة في شأن الداعية أنه يجب أن يكون واعيا وملما ومثقفا ومطلعا...

البنكي: ألاحظ لحد الآن أن كلامنا مازال في الجانب النظري أكثر منه في تحليل الواقع، فلذلك وفي هذه النقطة سأحاول أن أعرض مسألة المثقف ورجل الدين وإشكاليتهما كواقع في البحرين، لنلاحظ مثلا تجربة كلنا نعرفها منذ أشهر قليلة، وهي مسألة «عبدالوهاب حسين»، فبتغير مسارات وظروف بجمعية «الوفاق» خرج لنا اجتهاد بأن عبدالوهاب حسين سيمسك جمعية «التوعية الإسلامية»، وكان الخطاب في لحظتها بأن جمعية «التوعية الإسلامية» ستتفرغ للدور الثقافي، بمعنى أن هناك «صبوة» للانتقال من خانة الداعية إلى خانة المثقف، هذه التجربة انتهت لما قبل فترة بسيطة، إذ استمعنا تصريح لعبدالوهاب نفسه بأنه أراد أن يعطي دورا ثقافيا لكن الدور السياسي طغى على الدور الثقافي، ثمة في هذا المثال ما يعطي صورة لدور المثقف ورجل الدين، وهذا التلابس لا ينتمي إلى اللحظة الحالية، أتذكر قبل كم سنة أن تقي البحارنة ألقى محاضرة جميلة في نادي العروبة عن الشيخ عبدالحسين الحلي، وهو قاض معروف أتى من العراق إلى البحرين، لنرى التلابس والازدواجية في داخله، فشخصية رجل الدين وشخصية الشاعر الأديب المنحاز للأدب والشعر كان الحلي يتمتع بهما. كان تقي البحارنة يتحدث عن كيفية معايشة الشيخ الحلي لهذه الازدواجية ، فكان يذهب إلى مجالس العلماء من دون أن يحدثهم عن ذهابه إلى مجالس الشعراء والعكس أيضا، ثمة ما يؤشر إلى نوع من الالتباس والتنازع بين الدورين. أنا اعتقد أن ليس ثمة تقابل، فالمثقف الحزبي هو أصلا داعية، فالداعية في اللغة هو من يدعو إلى فكرة يريد أن يجتمع عليها الناس ويؤيدوها، هناك رجل دين كـ «هاني فحص» لا استطيع أن انفيه من ساحة الثقافة، فمع زيـه العلمائي يحضر المسرحيات عوضا على مشاركاته الفاعلة هنا وهناك... لكن في المقابل ليس كل رجل دين يستطيع أن يتحدث في كل المسائل التفصيلية التي لا يفهم فيها حتى على صعيد الفتوى، فهناك مثلا فقيه محجوب عن العصر ومحجوب عن السياقات ومحجوب عن المستجدات ويفتي لك في علم الأجنة! كيف أقبل ذلك؟ حسنا، علم الأجنة محتاج إلى آلية شرعية لاستنباط الفتوى، لكنه محتاج بشكل أساسي واعتمادي إلى علم الطب وما إلى ذلك لكي يستطيع أن يفتي (...) أعتقد أن الساحة الشيعية تكتنز هذه الالتباسات أكثر من الساحة السنية فالدور غير محدد لكل منهما، أي للمثقف ورجل الدين.

من يقود المجتمع:

رجل الدين أم المثقف؟

وهذا ما يدعونا إلى التأمل في قيادة المجتمع، فالكثير يستشكل على مسألة «التفرد» في قيادة المجتمع، في المقابل هناك من يروج لمقولة «شورى النخبة» التي تفضي إلى التوازن القيادي بين المثقف ورجل الدين، كيف تقرأون تلك المقولة؟

- السيد: فقط أود أن اعقب على ما قاله البنكي قبل أن أجيب عن هذا السؤال. أنا ذكرت أن الداعية / رجل الدين قد يفتقد إلى الكثير من الثقافة... وتطرق البنكي لحالتين وهما الشيخ الحلي وعبدالوهاب. ربما اتفق معه في مثال عبدالوهاب في العموم إلا أنني اختلف معه في الخصوص على الأقل لكوني مطلعا على ما يدور من الداخل، فأول عامل أن ثمة بعض رجال الدين الأكثر تخصصا - دينيا - دخلوا الجمعية (جمعية التوعية) ويستطيعون أن يعملوا ويغطوا مساحة كبيرة، والعامل الآخر هو أن عبدالوهاب وجد نفسه في الساحة السياسية والمسألة لا تعني الالتباس، وما أثاره البنكي حول الشيخ الحلي والأدب فأنا أرى أنها مسألة غير دقيقة، فلو قرأنا تاريخ علماء البحرين لرأينا أنهم لا ينفكون عن الإبداع الأدبي... ورجوعا إلى السؤال أنا لا أرى فردا أو فئة تستطيع قيادة الساحة وإن كانت هناك أدوار قيادية تقود بعض الفئات، كبرت تلك الفئات أو صغرت، فالمحصلة أنها لا تقود المجتمع بأكمله... لكن لا أرى مانعا في أن يقود رجل الدين الساحة. أنا اتفق معك على أن رجل الدين ليس خبيرا في كل شيء لكن هذا لا يمنع من قيادته للمجتمع، فهناك الكثير من القيادات المؤسسية، وفي إطار المؤسسة نخرج من الإشكال. أما إذا كانت قيادة رجل الدين من دون المؤسسة فذلك لا يلغي أدوار الآخرين من خبراء ومختصين وليكن هناك إرشاد وتوجه... لا عيب في ذلك.

تحديدا كيف تقرأ مزاوجة قيادة المجتمع بين المثقف ورجل الدين؟

- السيد: المزاوجة على نحو التساوي أنا لا أؤيدها... أما بتوزيع الأدوار فأنا معها باختصار شديد.

- البنكي: أولا، هل رجل الدين يدخل ضمن النخبة؟ فالعلوم الاجتماعية الحديثة التي تتحدث عن المجتمع وطبقاته تجد أن موقع رجل الدين «قلق» على الأقل بقياسها. ثانيا، فكرة الشورى غريبة على حقل المثقف، فنحن إلى حد الآن لم ننجح في تصور مستقر لـ «الشورى» فهناك تطبيقات متعددة ومختلفة، ولاسيما أن كل التجارب التي طرحت الشورى لم تنجح في بلورة تصور قادر على حسم المسألة، فهل الشورى ملزمة؟ أو معلمة؟ الفكرة الأساسية من قال إن فكرة قيادة المجتمع (علماء دين أو مثقفين) ممكنة؟ فكم هم من قاد المجتمع؟ هناك نماذج قليلة جدا كالخميني مثلا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً