كلعبة تركيب الصور Puzzle التي يعشقها معظم الصغار يلعب المخرج الفلسطيني ايليا سليمان مع المشاهدين لعبة تركيب المشاهد لينتقل بعدها الى لعبة تركيب القصة بأكملها، وتتم عملية التركيب هذه ببطء مثير للأعصاب يحتبس فيه الزمن ومع ذلك لا نمله، لأنه ينقل لنا أبعادا كثيرة للمشهد وللقصة ولما يريد ان يقوله، ويأخذنا الى أبعد زوايا الاحياء التي صور فيها الفيلم والى ادق خصائصه وقضاياه. بطيئا جاء على غير المعتاد في قصة ساخنة يجب ان تحوي الكثير من «الأكشن» والاثارة والمشاهد السريعة، لكنه جاء هنا ليجعلنا نستشعر حلاوة مشاهد الفيلم، ولنغوص عميقا معه لندرك ما يريد ان يقوله ولنعيش الحيرة التي يعيشها اي مواطن فلسطيني على تلك الأرض المقدسة والتي يتناولها ايليا سليمان بشفافية وتلقائية غير معتادة تكشف عن براعة نادرة تجعل من سليمان ظاهرة اخراجية وسينمائية مميزة.
فيلم «يد الهية» الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الأخير والذي رشح لنيل جائزة «السعفة الذهبية» لأفضل فيلم غير أوروبي في المهرجان نفسه، والذي رفضته لجنة مهرجان الأوسكار لأنه اتى من بلد لا يعترف به المهرجان، هو فيلم يحمل كل المقومات التي تجعله متألقا، والغريب ان تألقه هذا لا يأتي من مشاهد صاخبة بأي نوع من الاثارة سمعية كانت أو بصرية بل من مشاهد بسيطة تنقل مناظر من الحياة اليومية لفلسطينيي القدس والناصرة ورام الله. مشاهد تحمل كما كبيرا من الألم والمرارة اللتين يختار ايليا وسيلة اخرى لنقلهما عدا ما اعتدنا عليه من مشاهد الدم والقتل والدمار وكل ما يمكن ان يستحث دموع المشاهد ويعتصر قلبه ويثير في نفسه نوعا من الحماسة والانفعال، فنحن نضحك مع ايليا ألما لما تحويه مشاهده الكوميدية من مرارة ونحن نتمزق وجعا وخوفا لحكاية حب كان من المفترض ان تستحث موسيقى عذبة لدينا.
يتناول الفيلم جوانب من حياة البطل، لنشاهد قصته مع مرض والده ثم قصة الحب التي تربط بينه كشاب من القدس وبين فتاة من رام الله. وفي اثناء تناول هاتين القصتين يمر بنا المخرج على الحي الذي يعيش فيه البطل ليستعرض لنا مشاهد من الحياة اليومية لجيرانه الذين لا يعرفون كيف يتعايشون مع بعضهم بسلام، مشاهد متفرقة قد لا تبدو عند الوهلة الأولى ذات علاقة وثيقة بقصة الفيلم الرئيسية لكنها ان اعدنا تركيبها أصبحت تشكل خلفية متناغمة بشكل بارع مع قصص الحب التي يدور حولها الفيلم، وتأتي بعض هذه المشاهد لتحكي قصصا قصيرة بينما لا تشكل بعض المشاهد الأخرى سوى اضاءات على هذه القصص. نشاهد أولا قصة الجار مختل العقل الذي يمزق كرة فتى يستعرض قدراته في اللعب بها ويؤدي حظه العاثر الى سقوط محبوبته من على سطح منزل هذا الجار، ليأتي الأخير حاملا سكينه غارزا اياها بكل جنون في جسد الكرة المطاطي الذي طالما أحبه الفتى، وفي وسط هذه القصة تأتي مشاهد كثيرة تروي قصصا اخرى عن الجار الذي يدمر ممر سيارة جاره والجار الذي يرفض تحريك سيارته من وسط الطريق.
وتتناغم هذه القصص مع قصة الحب لتصبح دار الرجل المجنون وممر العبور والطريق المغلق نقاط عبور، وليصبح المجنون ومخرّب الممر ومغلق الشارع جميعهم كالمحتل الذي يسيطر على نقطة العبور، اما الفتى الصغير وسكان الحي الذين يتعرضون للأذى فهم كالبطل المحب وهو كالفلسطيني صاحب الأرض، في حين ترمز الكرة والمعبر والطريق العام الى الحبيبة التي جاءت كناية عن الوطن. ثم نرى قصة جار آخر يلقي قمامته في منزل جارته ويعاتبها حين تعيد القمامة الى منزله ويلومها لعدم اتخاذها طريق الحوار بدلا من اللجوء الى العنف وأذية الجيران، وهو كالجار الذي نراه في أطرف مشهد من مشاهد الفيلم حيث يقود سيارته خارجا من الحي وفي الأثناء يحيّي كل من يلاقيه لكن بشتائم وسباب، والجيران يردون التحية معتقدين انهم قد تلقوا أطيب الكلام وأعذب التحيات، وهو مشهد كان المخرج متخوفا فيه من ردود فعل المشاهدين في فلسطين ازاءه لكنه تفاجأ بكم الضحك الذي حصل عليه حين عرض الفيلم، على رغم أنه مشهد يحمل اشارة مؤلمة الى واقع علاقة الفلسطينيين مع بعضهم في ظل مجتمعهم القائم على العزل والتمييز، ثم نسمع قصة الجار الذي يستهزئ بجاره حين يطلب منه تحريك سيارته ليتمكن من العبور تماما كما يفعل الجندي الاسرائيلي الذي يستهزئ بالعابرين بين القدس ورام الله.
هذه المشاهد الكوميدية المؤلمة تقبع في خلفية قصة مرض الأب وقصة الحب، الأب ينهار لمشكلات تتعلق بعمله، ويصاب بجلطة قلبية ليموت بعدها، أما الحبيبة التي لا يستطيع البطل لقاءها بسهولة فتلتقي به كل يوم عند نقطة العبور الاسرائيلية بين المدينتين ليقضيان ساعات طويلة، لا ليتحدثان بل ليمسك كل منهما بكف الآخر ناقلا له كل ما يمكنه من مشاعر الحب والهيام، لكنهما يفترقان أخيرا حين تنضم الفتاة الى صفوف المقاومة الفلسطينية، أما البطل الذي يبدو سلبيا فيظل متفرجا على كل ما حوله، ينتظر حبيبته التي تتوقف عن لقائه في المشاهد الأخيرة ولا يفعل شيئا سوى الانتظار بالقرب من نقطة العبور تماما كاثنين من سكان الحي يقضيان الوقت في مراقبة ما يحدث للجميع من دون أن يحركا ساكنا.
قصة الفيلم جاءت لتنقل لنا حقائق نستوحيها من هذه المشاهد البسيطة، فالفلسطينيون لا يستطيعون التعايش مع الاسرائيليين، والاسرائيليون المسيطرون على كل الأمور لا يعون شيئا عن هذه الأرض ولا علاقة لهم بها في مقابل الفلسطيني (ابن الأرض) الذي يعرف عنها كل الاسرار، الأمر الذي ينقله لنا المخرج بمشهد كوميدي رائع ومتقن نرى فيه سائحة تطلب العون من احد رجال الشرطة الاسرائيليين ليدلها على كنيسة في القدس، فلا يعرف الشرطي الاسرائيلي الطريق لكنه يستأذنها للحظة ليحضر احد المعتقلين الفلسطينيين من خلفية سيارته ويأتي المعتقل مكبلا ومعصوب العينين لكنه يتمكن من اعطاء السائحة اكثر من طريق للوصول الى الكنيسة المقصودة، وهو مشهد لا يمكنني وصف انبهاري به. وإلى جانب اخراج الفيلم الرائع وأفكاره العميقة ومشاهده الظريفة بشكل محزن، تأتي العناصر الأخرى في الفيلم لتجعل منه فيلما متميزا والتي تتضمن اداء الممثلين الرائع، وعلى رأسهم ايليا سليمان الذي أدى دور البطل ومنال خضر التي أدت دور الحبيبة، ثم هنالك الموسيقى الرائعة التي جاءت متممة للمشاهد.
الأمر المهم جدا الذي يجب ان اذكره هو ان الفيلم لا يحوي سوى القليل من الجمل، اذ لا نسمع فيه اي حوار سوى دبيب أقدام الممثلين، وهو أمر يثير الدهشة فكيف لفيلم صامت ان يثير كل هذا الشجن والألم والاعجاب، لكن مشاهدة الفيلم ستكشف اية حيرة لديكم وستزيل اي غموض يطل برأسه.
الفيلم أكثر من رائع، والمخرج بارع الى حد كبير، والقصة مؤثرة، ولكن لأنه لا يمكن أن يتحقق الكمال في اي عمل جاءت نقطة ضعف الفيلم في مشهد أراه دخيلا على وتيرة الفيلم وعلى اسلوب المخرج وهو المشهد الذي تظهر فيه الفتاة (منال خضر) بعد انضمامها الى المقاومة لتتحدى المتدربين على الرماية من الاسرائيليين ولتؤدي بعض حركات النينجا التي لا تتناسب مع حال الصمت والسكون المعبرة التي تسود الفيلم، هذا المشهد المنتج كمبيوتريا جاء غريبا في وسط مشاهد الأحياء القديمة والشوارع الأنيقة والحواجز الخشبية البسيطة، مشهد وجدته شاذا بين كل هذه المشاهد البديعة وان كان الهدف منه ايصال فكرة قوة المقاومين الذين لا يحملون سوى سلاح الحجارة امام جبروت الاسرائيليين واسلحتهم الفتاكة، لكنه وعلى رغم ما اعتقده من ضعف فيه لم يضعف الفيلم ولم ينقص من تميزه بل اصبح في نظري كبثرة مزعجة على وجه نضر وجميل، وهكذا فإن الفيلم يستحق المشاهدة على رغم كل شيء. «اليد الالهية»، التي يتحدث عنها المخرج والتي اتخذها عنوانا لفيلمه تبدو واضحة في الكثير من المشاهد فهي اليد الغيبية التي تحمي المقاومة من رصاص الجنود وهي التي تجعل نواة فاكهة المشمش الفلسطيني تتسبب في تفجير دبابة اسرائيلية، وهي التي تطير بالبالون الذي يحمل صورة ياسر عرفات فوق نقطة العبورمرورا بأحياء القدس وأزقتها ليصل الى قبة الصخرة ويستقر فوقها وهي التي تظهر في مشاهد كثيرة أخرى.
فيلم «يد الهية» من اخراج: ايليا سليمان
الممثلون: ايليا سليمان ، منال خضر، نايف فاهوم ظاهر، جورج ابراهيم.
مدة العرض: 92 دقيقة - مكان العرض نادي البحرين للسينما - تاريخ العرض: 17 سبتمبر/أيلول 2003
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 296 - السبت 28 يونيو 2003م الموافق 27 ربيع الثاني 1424هـ