وأخيرا ظهر محمد سعيد الصحاف بعد غيبة قسرية. الكل انتظر حديث وزير الإعلام العراقي السابق. فالانتظار كان حديث الناس. وبعد الحديث خابت آمال المشاهدين. فالتوقعات كانت مختلفة وأكبر مما قاله الصحاف او افترض انه سيقوله.
قرر الصحاف الصمت، او تقليل الكلام، او تأجيله إلى أمدٍ غير معلوم. الرأي العام انتظر أجوبة عن اسئلة، فجاءت ردود الصحاف «مصفّحة» أو «مصحّفة». فالتصحيف مهنة تعوّد عليها وزير الاعلام العراقي السابق وحين طلب منه قول الحقيقة تراجع عن الكلام او خاف من الكلام او فضل تأجيل الكلام إلى وقت لاحق. حوار الصحاف المقطوع والمتقطع زاد الحقائق غموضا و«صحّف» الكثير من المعلومات وأغلق عليها باب النقاش. فالوقت لا يزال عند الصحاف ليس وقت قول الحقيقة. فالحقيقة تستطيع الانتظار... اما الناس، على حد كلام وزير الاعلام السابق، فيقولون الكثير من الاشياء بينما الحقيقة مسألة أخرى، ولأنها مسألة اخرى تستطيع الانتظار.
الجديد في حوار الصحاف على شاشتي «العربية» و«أبوظبي» هو شكله وهيئته. فقد ظهر الصحاف كما هو من دون «رتوش» ولا «صباغ» ولا «لباس عسكري» يخفي وظيفته الاصل: قول الحقيقة. ولأن الحقيقة صعبة دائما فضل نسيانها أو تأجيلها.
مال الصحاف إلى «التصحيف» فظهر كانسان على حقيقته، فهو شخص عادي جرد من سلطته وصلاحياته وهي الدفاع عن الأولى والكذب في الثانية. والنتيجة كان الحوار فعلا على شكل الصحاف وهيئته البائسة. فهو إنسان هزيل، متردد ويخاف من قول الحقيقة. تغير العراق كله ولم يتغير الصحاف فهو لايزال وزيرا للاعلام من دون وظيفة وصلاحيات. فالعادة أحيانا على كثرة تكرارها تصبح أقوى من الوقائع والصحاف تعود «التصحيف» ومخاوفه زادت عن السابق. في السابق كان يخاف من صدام (ابوالصدوم والتصدي) والآن بات يخاف من سلطتين: الاستبداد السابق والاحتلال اللاحق. وبين اللونين (السلطتين) ظهر لون شعره على حقيقته من دون صباغ وظهر الشيب الذي غلف الصباغ بياضه من دون ان يسقط القناع الاعلامي: التصحيف.
لم يتغير الصحاف كثيرا... الا ان العراق تغير. فهناك الآن عشرات الأحزاب والمنظمات والهيئات الحزبية والنقابية... والصحاف حتى الآن لا يصدق. وهناك الآن مئة صحيفة ومطبوعة يومية وأسبوعية وغيرها من منابر وأندية ومنشورات ومطبوعات... والصحاف حتى الآن لايزال يتصرف كمصفحة جاهزة للاطلاق دفاعا عن وزارة اعلام سقطت من دون قتال. ربما يحتاج الصحاف الى مزيد من الوقت لاكتشاف الحقيقة وقولها، ويحتاج كذلك إلى مزيد من التفكير ليستوعب التحولات التي طرأت على العراق خلال فترة غيابه القسري وابتعاده عن الأنظار ومشهد الكاميرات و«الفلاشات». فالحقيقة دائما صعبة ومعرفتها أصعب... والأصعب قولها.
خيب الصحاف المشاهد العربي ولم يقل ما كان يتوقع منه ان يقوله: الحقيقة. ترك الحقيقة غامضة، غائبة، تبحث عن من يمتلك الجرأة ليقولها. الحقيقة عادة لا تحتاج إلى سلطة (وزارة الاعلام مثلا) لقولها، تحتاج فقط إلى جرأة. والصحاف ينتمي إلى جيل تعود ألا يقول «الحقيقة» حتى لو عرفها. وتدرب في الحزب (العشيرة) الحاكم على أن الخداع وانكار الوقائع الجارية أمامه هي الحقيقة التي تقال للجماهير.
حتى اللحظة الأخيرة استمر الصحاف في نفي الوقائع، حتى حين وصلت الدبابات الاميركية إلى مدخل وزارته (الاعلام) قعد في مكتبه يصرح أمام شاشات المحطات بأن بغداد صامدة مؤكدا عدم سقوط وزارته (مكتبه). فالوزارة برأيه لم تسقط... اختفت فقط. الدولة لم تسقط أيضا (اختفت)، والجيش لم يسقط (اختفى). وصدام ربما لم يسقط وانما غاب عن الصورة. وهكذا دواليك.
مشكلة الصحاف انها جزء من مصيبة النظام السابق. ومشكلة الاعلام العراقي السابق انه كان يخلط دائما ومن دون تمييز بين وظائف الدولة ووظائف الاعلام. وهذا الخلط يفسر عدم قدرته على تحديد مهمات الدولة ومهمات الاعلام ومتى تنتهي صلاحيات الأولى لتبدأ صلاحيات الثانية. فالصحاف لايزال يخلط بين قول الحقيقة ووظيفة الخداع. وهو الى الآن، وعلى رغم مصائب العراق وويلات العرب لايزال يعتقد ان قول الحقيقة (سر عسكري) ويضر بمصالح الدولة. وبرأي الصحاف، وبعد خروجه من تحقيق طويل أجرته معه مخابرات جيش الاحتلال الاميركي قال فيه ما قال من حقائق، لايزال يعتقد ان رأي الدولة يجب ان يتطابق مع رأي الصحف... والاختلاف جريمة يعاقب عليها القانون.
انصدم المشاهد العربي من صحافة الصحاف... وانصدم ثانية من تصحيف بقايا نظام «ابوالصدوم». فالعالم كله انكشفت امامه الحقائق والصحاف يصر امام العالم على عدم قولها.
يا لها من مهزلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 296 - السبت 28 يونيو 2003م الموافق 27 ربيع الثاني 1424هـ