التحرك الأخير لعدد من المتجنسين حديثا ربما جاء متأخرا بعد كل ما حدث من حوارات ونقاشات لم تخلُ من الحدة. فعدد من المتجنسين يفكر في تأسيس جمعية سياسية باسم «جمعية الوحدة الوطنية البحرينية» بهدف الدفاع عن مصالح المواطنين الذين نالوا الجنسية البحرينية. واللغة التي استخدمها أحد المتجنسين في رسالته إلى النائب عبدالهادي مرهون لم تخلُ أيضا من الحدة عندما أشار كاتبها إلى وجود «أفراد ذوي جلود طائفية سميكة تعميهم عن الحياء أمام ضمائرهم وأمام الرأي العام...».

مفهوم المواطنة، بمعنى الانتماء إلى دولة معينة والحصول على جواز سفر دليلا على ذلك، نشأ بمفهومه الحديث في القرن التاسع عشر مع تعزيز مفهوم «الدولة القومية الحديثة». فالدولة القومية تحتاج إلى أرض بجغرافية محددة، ونظام سياسي له سيادة داخل الحدود الجغرافية المذكورة، وشعب داخل تلك الحدود الجغرافية تحكمه التشريعات الصادرة عن السلطة المسيطرة على الأرض. هذا المفهوم الحديث تم الاعتراف به من قبل «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ثم اعترفت به «الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح نظاما متداولا في كل أنحاء العالم.

عندما نشأت الدولة القومية الحديثة في أوروبا وتأسست ألمانيا وإيطاليا على هذا الأساس (بعد توحيد ممالكهما وإماراتهما المختلفة)، انطلقت كل دولة «قومية» لتؤكد عظمتها وهيبتها وثقافتها وسموها، فخرج لنا هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا كأبرز أنموذجين لمفاهيم الدولة «القومية» التي تسعى إلى إبراز دورها على الساحة الدولية. إلى جانب ذلك، قام الأوروبيون «بطرد» اليهود واضطهادهم واعتبارهم ملة خارج قومهم. هذا الطرد والاضطهاد أدى إلى تأسيس الحركة الصهيونية في بازل بسويسرا في العام 1897م من أجل إقامة «دولة قومية» لليهود بعد أن اضطهدهم الأوروبيون وطردوهم وأقصوهم من مناطق النفوذ.

في تلك الفترة كان اليهود يتجهون بأعداد كبيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية هربا من الاضطهاد أو يلجأون إلى بريطانيا. فبريطانيا لم تضطهد اليهود على رغم أن شعبها (وهو أوروبي) كانت لديه مشاعر معادية لليهود (أو ما يطلق عليه بالعداء للسامية) مماثلة للمشاعر الأوروبية الأخرى. إلا أن البريطانيين كان لديهم وزير للمالية في عهد الملكة فيكتوريا واسمه «بنجامين ديسرائيلي» وهو يهودي وكان محبوبا جدا للملكة، ولهذا أصبح رئيسا للوزراء. فديسرائيلي الذي عاش ما بين 1804 و1881 هو الذي مكّن البريطانيين من السيطرة على الهند بصورة كاملة، ومن السيطرة على قناة السويس منذ انتخابه للبرلمان البريطاني في العالم 1837. وبسببه أزيل المنع الذي كان موجودا ضد دخول اليهود البرلمان أو الحكومة. وقد أصبح رئيسا للوزراء مرتين، مرة في 1868م وأخرى في العام 1874م، وبسبب ديسرائيلي (بصورة رئيسية) لم تتبع بريطانيا سياسة معادية لليهود آنذاك ولاحقا كما حدث في أوروبا...

شعور «اليهود» بالاضطهاد دفعهم إلى المطالبة «بوطن قومي»، واتصلوا بالبريطانيين، الحلفاء الطبيعيين لهم لعدة أسباب، منها العداء المشترك للنظام الألماني الذي اضطهد اليهود أكثر من غيرهم. وتكللت نشاطات الحركة الصهيونية بالحصول على «وعد بلفور» وتسهيل إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، بعد أن رفض اليهود عرضا بريطانيا آخر بنقلهم إلى كينيا وتكوين وطن قومي لهم هناك.

وهكذا أنتجت لنا «الدولة القومية» الأوروبية الحديثة «مشكلة الشرق الأوسط»، عبر دفع اليهود المطرودين والمكروهين من أوروبا إلى فلسطين... وبعد ذلك استُخدم الدين لتبرير قيام الدولة القومية اليهودية، على رغم أن البداية كانت سياسية، ومن ثم أصبحت استراتيجية - سياسية بعد استقواء اللوبي اليهودي الأميركي وتسلم أميركا قيادة النظام العالمي بصورة شبه منفردة منذ هزيمة العدوان الثلاثي على مصر في الخمسينات.

على الطرف الآخر من المشكلة، برزت يوغسلافيا الاشتراكية بقيادة زعيمها التاريخي المارشال تيتو الذي مكنته شخصيته التاريخية ونضاله أثناء الحرب العالمية الثانية من تعزيز نظام فيدرالي منذ استلامه الحكم العام 1944 حتى وفاته العام 1980. وبعد وفاته لم تستطع يوغسلافيا البقاء موحدة إذ انتهى بها الأمر إلى حروب أهلية بعد أن شن الصرب حروبا الواحدة تلو الأخرى ضد سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وكوسوفو.

مات تيتو وماتت معه أفكار المواطنة اليوغسلافية ووصل الأمر بأحد العنصريين حين تسلم الحكم وهو «سلوبودان ميلوسوفيتش» أن أشعل حروب التطهير العرقي والكراهية. العنصريون الصربيون حفروا قبر أحد ملوكهم الذين حكموا أجدادهم قبل ستمئة عام، واسمه الملك «لازار»، وجمعوا عظامه وقاموا برحلة بالعظام على كنائس الصرب داعين إلى إحياء صربيا... وفي طريقهم إلى ذلك الهدف ارتكبوا المجازر وحرقوا يوغسلافيا... الدولة القومية اليوغسلافية كانت دولة تعتمد على وجود شخص مثل تيتو وانهارت وتآكلت وخرجت دولة قومية أخرى وهي «صربيا» التي حاولت القضاء على أي طرف آخر يمكن أن يدعي أن له قومية أخرى...

مشكلاتنا المستمدة من مفهوم «الدولة القومية» الأوروبية كثيرة، وما لدينا من آثار إنما هو شيء بسيط لا يقارن بالأمثلة الأخرى المذكورة أعلاه. وذكرها إنما هو للإشارة إلى أن موضوع الجنسية والتجنس ليس هو الأهم، بل ان الأهم من ذلك هو الشعور بالانتماء. فما هي الروابط التي تربطني بهذه المجموعة أو تلك؟ وهل ان مصيري مشترك معهم؟ وما هي الثقافة الجامعة بيننا؟ هذه المسائل المعقدة هي التي دفعت بالولايات المتحدة الأميركية إلى نشر ثقافتها الأميركية التي تتحدث عن «البوتقة المنصهرة» بحيث يتم صهر كل الانتماءات في الانتماء الأميركي. ولا تمانع أميركا من وجود شخص يقول إنه أميركي وإنه من كاليفورنيا (ويعتز بمواطنته لكاليفورنيا) وان أصله من أرمينيا (مثلا)، وبالتالي فإنه يؤسس رابطة للأميركان من أصل أرمني...

الأوروبيون أيضا يحاولون خلق مفهوم «المواطنة الأوروبية» وهذا المفهوم شيء جديد في السياسة، ولربما ان الأوروبيين الذين اخترعوا مفهوم الجنسية والدولة القومية في القرن التاسع عشر هم أول من يغير المفهوم في القرن الحادي والعشرين بعد أن تسبب ذلك المفهوم بمصائب كبرى في عقر دارهم وصدّر المشكلات إلى خارج حدودهم، كما حدث ويحدث في فلسطين...

إننا بحاجة إلى مراجعة كثير من الطروحات لكي لا ينتهي بنا الأمر إلى ما لا تحمد عقباه. فموضوع التجنيس السياسي حرج جدا وقد فتحه البرلمان بعد أن تطرقت إليه مختلف القوى السياسية، وأصبح الآن أمرا واقعا... وكيفية التعامل مع الملف تتطلب دقة في الطرح وبحثا عن حلول أفضل...

الحلول قد لا تكون متوافرة كما ينبغي، ولكن لا يمكن معالجة الخطأ بالخطأ، وما نبحث عنه هو الانتماء إلى هذه الأرض الطيبة وأهلها، ومعيار الخدمة للبحرين وأهلها ليس محددا حاليا لأن الأوراق مخلوطة منذ فترة ليست بالقصيرة. ومع ذلك فإن موضوع الجنسية والتجنيس أصبح الآن ملفا مفتوحا ويجب معالجته بالحكمة التي تعزز أمن البحرين ومستقبلها... ومن أجل ذلك فإن السلطات من جانب وقوى المجتمع المدني من جانب آخر يلزمها فسح المجال للحوار المثمر والابتعاد عن أي منزلق لا تحمد عواقبه