تحديات كثيرة تواجه جامعة الدول العربية، وما ذكره أمينها العام عمرو موسى في قمة مجلس الوزراء العرب في القاهرة، عن مشكلات بنيوية وسياسية تعطل إمكانات تطور الجامعة ولعب دورها المطلوب في فترة مصيرية وحساسة، هو مجرد عناوين عامة لعشرات التفصيلات الصغيرة التي تهدد هياكلها وتمنع عنها الاستمرار ولو شكليا في أداء بعض الوظائف الدورية.
الجامعة في خطر. والخطر الحقيقي يكمن في داخلها وإذا لم تلجأ الدول العربية إلى معالجة تلك المعضلات فإن دورها سيتقلص إلى مزيد من الانكماش والتهميش.
لا شك في أن الكثير من المشكلات الموضوعية تهاجم مؤسسة الجامعة من الخارج. إلا أن تلك المشكلات يمكن السيطرة عليها، أو التعايش معها على الأقل، إذا أمكن إعادة تعريف الجامعة وتحديد وظائفها. تواجه الجامعة تحديات التدويل (العولمة في صيغتها الأميركية) وكذلك تواجهها مشروعات إقليمية اقتصادية غير سياسية تبدأ باتفاقات الربط التجاري بين الأسواق العربية والسوق الأميركية. وتواجهها أيضا نهوض تكتلات عربية تعبر عن نفسها في صيغ ومنظومات مستقلة عن الدائرة العربية الكبرى، كذلك هناك جملة إرهاصات تمرد على المظلة الجامِعة للدول العربية. فهذه المظلة بدأت تنخرها الثقوب وتهدد «العقد العربي» بالانفراط والتبعثر إلى دول تسلك اتجاهات متضاربة وبعيدة عن روح التجانس المفترض بين هيئات وشعوب تجمعها الكثير من الأشياء أكثر مما تفرقها.
هيئة الجامعة العربية اليوم اختلفت عن تلك الجامعة البريئة والطامحة إلى التقدم والتطور. ومؤسسات الجامعة بدأت تواجه سلسلة منظومات عربية تعطل إمكان التوحد على موقف مشترك. وكذلك بدأت تظهر إلى سطح العلاقات العربية مجموعة مصالح لا تتفق مع المصلحة العليا ولا تنسجم مع الاتجاه العام للدول العربية.
الجامعة إذا تواجه معضلات بنيوية تنطلق من داخل تركيبتها التنظيمية وتنعكس سلبا على ميثاقها وبرامجها واتفاقاتها الأمنية والاقتصادية والدفاعية. وأساس تلك المعضلات هو تقادم صيغتها التنظيمية وفشلها في احتواء التعارضات التي تنمو بين دول «مركزية» ودول «هامشية»، وبين دول «رئيسية» ودول «طرفية»، وبين دول «كبيرة» ودول «صغيرة». الدول الصغيرة مثلا تخاف من الكبيرة فتلجأ إلى عقد اتفاقات أمنية خارج الدائرة العربية لحماية نفسها فتنقلب الصورة وتصبح الصغيرة تهدد الكبيرة بسبب المخاطر الأمنية التي جلبتها تلك الاتفاقات. الدول الهامشية (الطرفية) مثلا تطالب الكبيرة (الغنية) بالمساعدات الاقتصادية والدعم المالي لتطوير مؤسساتها وتحسين شروط نموها وحين تعجز «الكبيرة» عن تلبية الطلبات المتلاحقة تقوم «الصغيرة» بعقد اتفاقات اقتصادية أو تفتح أسواقها للشركات «المتعددة الجنسية» الأمر الذي يزيد من ارتباطها بالخارج (التدويل) على حساب الداخل (التعريب).
كل هذه التحديات البنيوية تواجه مؤسسات الجامعة وترفع وتيرة قلقها السياسي واضطرابها التنظيمي... وهذه التحديات إذا تفاقمت فإنها في النهاية ستهدد هويتها المشتركة وتصبح جامعة لا معنى لها حين تفقد وظائفها التوحيدية.
ومشكلة الجامعة العربية انها تواجه كل هذه التحديات الموضوعية والذاتية في وقت يتجه العالم نحو المزيد من التدويل بينما الدول العربية تتجه علاقاتها نحو المزيد من الانكماش. والمشكلة الأكبر أن المطلوب من جامعة الدول العربية أكبر بكثير من قدرتها على الاستيعاب والتحمل. مطلوب منها مثلا تمهيد الطريق العربي للتصالح مع «إسرائيل» بينما الواقع يضغط نحو ضرورة التفاهم العربي على المصلحة العامة. فالدول العربية مثلا مطلوب منها أولا التصالح مع نفسها والتفاهم ثانيا بين بعضها بعضا شرطا موضوعيا (وذاتيا) لنجاح تجربة تصالحها مع «إسرائيل» والعالم.
نحن إذن أمام معضلات بنيوية - تنظيمية تفرض على الدول العربية تطوير هامش علاقاتها (الدستورية) وميثاقها القومي بنقله من مستوى علاقات الجوار الجغرافي والروابط الأخوية إلى مستوى آخر من العلاقات يقوم على فكرة المصالح (الأسواق). فالعلاقات العربية الآن تتبنى فكرة الرابطة الأخوية (اللغة، الدين، والثقافة) معتمدة شكل التحالف المتساوي في تنظيمه الأفقي بينما المطلوب للمصالحة مع الذات والعالم نقل تلك العلاقات أو تطويرها إلى روابط مصلحية تعتمد نظام التراتب العمودي الهرمي (الاتحادي) من دون اهمال أهمية علاقات الجوار الجغرافي والوحدة اللغوية والدينية والثقافية.
والسؤال: لماذا لا تستفيد الدول العربية من تجربة الدول الأوروبية وتعمد إلى تعديل أو تطوير ميثاقها وأدواته الدستورية وتجعله أكثر مرونة وحيوية؟
ربما تكون الصيغة الأفقية (القبلية) التي تفترض المساواة الكلية بين الدول (الخيم) كانت جيدة في البداية الأولى لفترة حركات التحرر واستقلال الدول العربية واحدة بعد أخرى عن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني... إلا أن تطور العالم واتجاه الدول نحو السوق الواسعة والمشتركة واعتماد التبادلية في المصالح وتقارب المسافات ولجوء الدول إلى التكتلات الإقليمية يفترض صيغة تنظيمية معدلة تقوم على فكرة الاتحاد لا الجامعة. فالجامعة رابطة أفقية أقرب إلى فكرة «القبيلة» المتحالفة على ثوابت لا تتغير. بينما الاتحاد يقوم على روابط عمودية (هرمية)، يعتمد مبدأ الأقلية والأكثرية ولا يشترط الاجماع شرطا للانتساب أو الاستمرار في الاتحاد.
النقد الذاتي الذي ظهر في القمة 36 في القاهرة ذو أهمية. والأهم هو كلام عمرو موسى عن مأزق جامعة الدول العربية. وربما يكون الكلام النقدي بداية جيدة لتطوير علاقات الجامعة من صيغة التحالف إلى صيغة الاتحاد. فالدول العربية، ربما، باتت بحاجة إلى علاقات تنظيمية أرقى ترفعها من رابطة القبيلة (الأخوية) إلى علاقات مصالح تنظمها سلسلة مواد دستورية أقرب إلى الاتحاد العربي لا الجامعة العربية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 295 - الجمعة 27 يونيو 2003م الموافق 26 ربيع الثاني 1424هـ