نظرا لتشتت فرق المعتزلة الى مدارس فكرية قولية كان من الصعب التمييز بينها من دون نسبتها الى شيء محدد تقول به هذه الفرقة خلافا لتلك. وأحيانا كانت الصعوبة تزداد حين تتفق فرقة مع أخرى على كلامها فلجأ الباحثون في علم «الملل والنحل والفرق» الى ربط الكلام بالاسم الأول لصاحب المدرسة أو بالاسم الثاني لشيخ الطريقة. وحين اتسعت وتوزعت على مدارس قولية شتى لجأ المؤرخون الى ربط اسم المدرسة بمهنة الشيخ. فرجال الاعتزال عرف عنهم بالاستقلال الاقتصادي خصوصا في بداياتهم الأولى فكان صاحب المدرسة أما من الموالي (عربي أو أعجمي) أو كان يمتاز بدراية مهنة معينة يقتات منها حتى لا يضطر الى العمل في مكان يضغط عليه أو يفرض شروطه على أقواله.
وأدى التنوع المهني وتعدد اصول الموالي الأقوامية (القوم) وصلات المصاهرة والزواج بين زعماء المعتزلة الى تركيب اجتهادات متقاربة أحيانا ومتباعدة أحيانا أخرى. وكانت الخلافات تقوى حين يدب الخلاف بين الأقرباء أو بين الأصدقاء أو أصحاب المهنة الواحدة.
لاحظ الامام البغدادي هذه الظاهرة (الاختلاف والاتفاق) في كتابه «الفرق بين الفرق» فقال عنها انها أسهمت في افتراق المعتزلة الى عشرين فرقة «كل فرقة منها تكفر سائرها، لكنها اجتمعت كلها على نفيها عن الله صفاته الازلية، وقالت بأنه ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية. وقالت أيضا: إن الله لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة. وقالت باستحالة رؤية الله بالابصار وأنه لا يرى نفسه ولا يراه غيره. واختلفت فيه هل هو راءٍ لغيره أم لا، فأجازه قوم منهم وأباه قوم آخرون منهم». (ص93/94).
ركز البغدادي في وصفه لخلافات واتفاقات فرق الاعتزال على الجانب الفكري بينما نرى أن أوصاف الجرجاني في كتابه «التعريفات» اختلفت حين ركز على الجانب الكلامي ومذهب الكلام الذي عرفت به الفرق. فالجرجاني في هذا المعنى يميل الى التركيز على منهجية التفكير عند المعتزلة بينما يميل البغدادي الى كشف مضمون التفكير عندهم. فالكلام عند الجرجاني هو الأساس لأنه يرسم معالم مذاهب الفرق الكلامية. والكلام تعريفا ، وبحسب الجرجاني، «ما تضمن كلمتين بالاسناد» والكلام علما هو ما «يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الاسلام، والقيد الأخير لاخراج العلم الإلهي للفلاسفة»..
ويميز الجرجاني بين تعريف الكلام وعلومه ومعناه في اصطلاح النحويين اذ عندهم «هو المعنى المركب الذي فيه الاسناد التام» وهو أيضا عندهم «علم باحث عن أمور يعلم منها المعاد، وما يتعلق به من الجنة والنار، والصراط، والميزان، والثواب والعقاب»... لذلك قيل وبحسب الجرجاني ان «الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة عن الادلة».
وبعد أن يحلل الجرجاني طرق الكلام وأساليبه يطل في كتابه للتعريف بالمذهب الكلامي الذي وصفت به المعتزلة في بداياتها فيقول: «هو أن يورد حجة للمطلوب على طريق أهل الكلام، بأن يورد ملازمة ويستثني عين الملزوم، أو نقيض اللازم، أو يورد قرينة من القرائن الاقترانيات لاستنتاج المطلوب». (ص 37، وص 265).
يميز الجرجاني هنا بين المذهب الكلامي الذي عرفت به المعتزلة وبين علم الكلام الذي هو منهج مجرد يمكن الأخذ به من دون الوقوع في قرائن المعتزلة واستنتاجاتها. وبسبب هذا التمييز بين المذهب والعلم يضطر الجرجاني الى اعادة تعريف علم الكلام في كتابه في الصفحة 201 اذ يقول «وهو علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الاسلام».
تركيز الجرجاني على الكلام والمذهب الكلامي عند المعتزلة جعله يختلف عن البغدادي في تعريفه لأن الأخير اهتم بالجانب الفكري أكثر من الجانب المنهجي. وتركز انتباه البغدادي على الشطر الذي يتعلق بالقدرة أي فعل الانسان لأعماله جعله يربط المعتزلة بهذا الجانب مطلقا عليهم جميعا تسمية «القدرية».
ماذا قال البغدادي عن «قدرية» المعتزلة وكيف قرأ فكريا هذه المسألة. يقول في كتابه «الفرق بين الفرق» ان المعتزلة قالت: «ان كلام الله حادث وتسمي كلامه مخلوقا. وان الله غير خالق لاكساب الناس ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقالت إن الناس هم الذين يقدرون اكسابهم وأنه ليس لله في اكسابهم ولا في اعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير. واتفقت على أن الفاسق من أمة الاسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنه فاسق لا مؤمن ولا كافر. وقالت إن كل مالم يأمر الله به أو نهى عنه من أعمال العباد لم يشأ الله شيئا منها». (ص93/94).
وبسبب رأي البغدادي الذي قرأ الاعتزال في دائرة الفكر لا الكلام اشار الى انهم من جماعة «القدرة» التي ترى أن أعمال الانسان صادرة عنه لا عن غيره وأنه يتحمل مسئولية أفعاله من دون ارادة غير إرادته. وعلى هذا يرى البغدادي ان الناس أسموهم «معتزلة» لأنهم اعتزلوا قول الأمة بأسرها، فالاعتزال برأيه خروج على الاجتماع والجماعة وليس موقفا محددا حصل في وقت معين وفي مكان اتفق على أنه مسجد الحسن البصري
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 294 - الخميس 26 يونيو 2003م الموافق 25 ربيع الثاني 1424هـ