يوم أمس كان اليوم العالمي لمناصرة ضحايا التعذيب، وكان ايضا اليوم العالمي لمكافحة المخدرات، وفوق ذلك كان اليوم الاول للاسبوع الفرنسي في البحرين...
حاولت الربط بين المناسبات الثلاث لأتعرف فيما اذا كان لمكافحة المخدرات علاقة بضحايا التعذيب وفيما اذا كان ذلك له علاقة بالاسبوع الفرنسي...
الصعوبة في ذلك ان المخدرات أمر بعيد جدا عن ضحايا التعذيب، وكلاهما بعيدان عن الاحتفال الفرنسي...
غير ان ضحايا التعذيب الذين يبلغ عددهم آلافا بعضهم استطاع التغلب على معاناة السنين الماضية والبعض الآخر مازال يعاني ويحمل معه امراضا مختلفة... هؤلاء ليس لهم من يعالجهم كما هو الحال مع مدمني المخدرات.
فالمدمنون لهم علاج متوافر والحكومة تعترف بوجود المشكلة وتطلب مساعدة الاهالي وعلماء الدين، كما جاء في كلمة المدير العام للتحقيقات الجنائية يوم أمس. أما ضحايا التعذيب فمازال هناك ابتعاد رسمي عن الاعتراف بالمشكلة وحجمها ما يترك الموضوع للخطاب السياسي الملتهب... على ان الخطاب السياسي الملتهب يصرخ ويصرخ من دون ان نسمع عن تطوع الجمعيات التخصصية لعمل شيء واضح...
ففي اليونان مثلا كانت احدى ضحايا التعذيب طبيبة في الجامعة عندما تم اعتقالها من قبل العسكريين (اليونان كانت تحت الدكتاتورية في مطلع السبعينات) وتعرضت لتعذيب شديد مع غيرها من المواطنين اليونانيين...
ولكنها عندما خرجت من السجن وأنهت دراستها للطب انشأت مع اصدقائها الاطباء شبكة من أجل معالجة ضحايا التعذيب. وهكذا تطور عمل الطبيبة ماريا بنيور كالي وتصاعد سنويا واستطاعت مع الاطباء الآخرين فتح المراكز الصحية والمستشفيات والعيادات لمعالجة كل ضحية تعذيب بصورة مجانية...
بعد سنوات من عملها الدؤوب انتفت الحاجة لمعالجة ضحايا التعذيب اليونانيين مع انتهاء العهد القاسي، ولكنها لم تتوقف، اذ قامت بفتح المجال لضحايا التعذيب من كل مكان في العالم... واستطاعت توفير علاج لضحايا تعذيب من البوسنة والهرسك والعراق ودول الشرق الاوسط، وتصاعد نشاطها حتى أصبحت عضوا رئيسيا في اكبر الجمعيات الحقوقية (ومقرها الدنمارك) المتخصصة في علاج ضحايا التعذيب، وأصبحت عضوة في مجموعة مرتبطة بالبرلمان الاوروبي ولديها مهمات مختلفة في هذا المجال...
وعندما التقيت بها في العام 1996 كانت تحدثني عن نشاط الاطباء في البحرين وفيما اذا كانوا يعالجون المتضررين من الانتهاكات... كان جوابي لها ان ذلك غير مسموح به (آنذاك)... إلا ان ردها كان «انا لم اسأل اذا كان مسموحا ام لا، انا سألت اذا كان الاطباء يعالجون أو لا يعالجون؟... فنحن في اليونان لم يكن مسموح لنا ان نعالج انفسنا وغيرنا ولحد الآن ليس واضحا اذا كان مسموح بما نقوم به من توفير الخدمات الصحية لغير المواطنين بصورة مجانية، ولكننا نحن الاطباء نقرر ما نريد القيام به لخدمة حقوق الانسان...».
هذا الحديث استوقفني كثيرا وسألت نفسي اذا كانت المشكلات التي نعاني منها تقع مسئوليتها على الجانب الرسمي فقط أم اننا جميعا مشاركون في الامر، ففي بلدان أخرى تسمع عن «اطباء بلا حدود» وتسمع عن «مراسلون بلا حدود»، وتسمع عن مختلف التخصصات الهندسية والعلمية التي تتجمع بصورة طوعية لخدمة قضايا حقوق الانسان ليس فقط داخل حدود بلادهم ولكن «بلا حدود»... بمعنى أن نشاطهم يذهب الى كل مكان من دون استثناء.
لماذا ننتظـر أن يعالجنا الأطباء الآخرون ما دام لدينا أطباء متخصصون في كل شيء؟ ولماذا لا تفتح المستشفيات الخاصة والعامة والعيادات أبوابها بصورة مجانية لكل ضحية تعذيب؟ لماذا لا توفر الاستشارات النفسية والعلاجية بصورة طوعية ومباشرة؟
لماذا لا تفسح المدارس والمعاهد المنتشرة في كل مكان أبوابها لتدريس شخص فقد سنوات من حياته العلمية بسبب ما تعرض له من انتهاكات؟
لماذا لا تتعاون المؤسسات الحقوقية فيما بينها لاستصدار شهادات تثبت أن هذا الشخص كان من الضحايا ويتم تحديد ما يحتاجه من رعاية وبالتالي يمكن استخدام ذلك في العلاج والمساعدة في التعليم والمساندة؟ من الذي سيمنع الحقوقيين والأطباء والمعاهد التعليمية فيما لو قاموا بمثل هذا العمل الانساني لأبناء وطنهم الذين ضحوا من أجلهم؟
لماذا لا تعرف بعض الجهات سوى الخطابات والاعلانات وغيرها؟ بينما يتغافلون عن الأمور المهمة التي يستطيعون القيام بها؟ لماذا لا يتوجهون إلى ما يخدم الضحايا بصورة فعلية؟
هذه الأسئلة الحرجة لا توجد أجوبة مباشرة لها، فهناك ألف سبب سيطرحه كل شخص لا يود القيام بدوره تجاه أخيه الانسان، بل أن الأكثرية تود إلقاء اللوم على غيرها لتتخلص من واجبها الديني والانساني والوطني تجاه الآخرين...
لدينا أكبر شبكة طوعية لخدمة الفقراء والمحتاجين متمثلة في الصناديق الخيرية، وعملهم كبير جدا على رغم محدودية الموارد المالية... فالصناديق الخيرية قامت بصورة أولية ورئيسية على قوى الدخل المحدود وهم الذين يساندون غيرهم... أما كثير من المتمكنين مهنيا وماديا فلهم عالمهم الخاص بهم، وسياسيونا لديهم الخطابات الملتهبة، بينما ضحايا التعذيب الذين ضحوا من أجلنا جميعا ينتظرون أكثر من الكلام والتعاطف النظري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع...
ربما اننا بحاجة إلى ورشات عمل تدريبية يديرها أمثال الطبيبة اليونانية أو طبيب من «أطباء بلا حدود»، أو أعضاء في الحركة الحقوقية الانسانية الذين يتطوعون بخدماتهم «بلا حدود» في كل مكان... فلعلنا نبدأ بمساندة أنفسنا داخل حدودنا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 294 - الخميس 26 يونيو 2003م الموافق 25 ربيع الثاني 1424هـ