مشكلة قطاعات واسعة من المعارضة العراقية «المستوردة» من الخارج أنها لاتزال تتعاطى مع الاحتلال بصفته «حركة تحرير»، وترى أن ما فعلته الولايات المتحدة من حرب تدمير وفوضى في العراق كان وسيلة نبيلة لتحقيق هدف نبيل وهو انقاذ الشعب العراقي من الاستبداد.
هذا النوع من المعارضة العراقية يقرأ الواقع بمنظار أيديولوجي فيراه لا كما هو. فالأيديولوجيا أحيانا تقلب الوقائع وتنظر إليها بعيون كاذبة بينما النتائج تقول عكس ما تراه «المناظير» الأيديولوجية الليلية والنهارية. فالاحتلال هو الاحتلال ولاشيء جديدا في الأمر.
حتى الآن لم تبذل الإدارة الأميركية أي جهد يذكر للتأكيد على أن ما حصل هو فعلا «حرب تحرير». بل على العكس تماما ، وكل تصرفات وتحركات وتصريحات المسئولين في البيت الأبيض تؤكد يوميا أن ما حصل في العراق هو بكل بساطة مجرد احتلال.
المشكلة ان قطاعات واسعة من المعارضة «المستوردة» لم تدرك حتى الآن أن العراق دولة محتلة من قبل دولة كبرى، وان التصرفات التي تقوم بها الإدارة المدنية (المندوب السامي) يحاكي كل ما قرأناه في كتب التاريخ عن الاستعمار. والمدهش في تصرفات الولايات المتحدة انها حتى الآن لم تبذل أي جهد يذكر لنفي هذه التهمة: الاحتلال.
واشنطن مثلا استخدمت أحمد الجلبي وساطة للاحتلال. وتذرعت به وبمجموعات سياسية معارضة أخرى كانت موجودة ومنتشرة في لندن وواشنطن كواجهة محلية للقيام بالحرب. وحين نجحت بدأت بالاستغناء عن دوره (دورهم) مستبدلة إياه (إياهم) بأدوات أخرى أكثر مرونة وطواعية في تلبية حاجات الاحتلال وأهدافه الحقيقية.
أحمد الجلبي، ورفاقه، مجرد مثال على واقع موجود. وهذا الواقع ليس جديدا على تاريخ الاستعمار. فالاستعمار هكذا يبدأ من نقطة وينتهي في أخرى. والوعود التي يطلقها قبل الاحتلال ليست بالضرورة هي نفسها بعد حصوله. فمن شروط الاحتلال (الاستعمار) هو الكذب. ومن يكذب في أسباب الحرب (أسلحة دمار شامل) غير مستغرب منه أن يكذب في نتائجها. الثابت في أدوات الاحتلال هو الكذب، وما تبقى هو مجرد شعارات تقال هنا وهناك لذر الرماد في العيون.
المشكلة في قطاعات واسعة (ومعينة) من المعارضة إنها حتى الآن لم تصدق الأكاذيب وتصر على أن الاحتلال ليس احتلالا وتتصرف على أساس أن ما يحصل هو مجرد أخطاء في التجربة (أو قلة معرفة) لابد من تصحيحها لتوضيح الصورة أمام المحتل.
حتى الآن استبعد الاحتلال معظم الشرائح التي تعاونت معه وخططت له وزينت له الأمور. لم يقبل الاحتلال حتى الآن أن تلعب تلك الفئات دور المساعد بل انه لجأ إلى حل تنظيماتها وهيئاتها ومؤسساتها وقطع عليها كل السبل حتى تلك المتعلقة بتنظيم الشئون الإدارية للمواطنين. ولم يقبل الاحتلال مجرد مشاركتها ولو شكليا في اللعبة السياسية، خوفا من ان تتحول مع الأيام إلى «رموز» يحتاجها المواطن أو يعود إليها للشكوى والتظلم.
المشكلة في تلك القطاعات من المعارضة أنها لم تكتشف حتى الآن حقيقة ما حصل في العراق. فالاحتلال الحديث لا يمكن أن يختلف في جوهره عن الاحتلال القديم أو مجموعة «الاحتلالات» التي حصلت خلال 500 سنة ماضية منذ بدء الاكتشافات الجغرافية الكبرى. حتى الآن تتصرف تلك القطاعات من المعارضة مع الولايات المتحدة وكأنها قوة تحرير جاءت من وراء البحار لتخليص الشعب العراقي من «الاستبداد». والمشكلة الكبرى أن تلك القطاعات من المعارضة تتصرف مع الوجود الأميركي وكأنه «جمعية خيرية» جاءت إلى البلاد للمساعدة لا للسرقة، ولإعادة الإعمار لا للعودة إلى النهب. وان الاحتلال في النهاية ليس مجرد جيوش تسيطر وإنما أيضا شركات ومؤسسات وهيئات تمول الحروب وتشجع عليها لا بقصد تحرير الشعوب من الاستبداد وإنما بهدف الاستثمار والربح والسيطرة على الثروات.
ومن يراقب تلك القطاعات من المعارضة العراقية يلاحظ أن رموزها خادعة ومخدوعة وأحيانا مخادعة. فهي خدعت وانخدعت وتحاول الآن التظاهر بالانخداع حتى لا تعترف بأن دورها انتهى لأن وظيفتها الأساسية تحققت وهي تشكيل واجهة محلية لتبرير الحرب.
حرب الاحتلال انتهت الآن وبدأت حرب تثبيته، وفترة التثبيت تختلف في أدواتها ورموزها وشعاراتها. وهذا لا تفهمه تلك القطاعات من رموز المعارضة المستوردة. فلكل مرحلة رجالها وحين تبدأ مرحلة جديدة يستغنى عن رجال المرحلة السابقة. والأمر نفسه ينطبق على مختلف القطاعات. في الصحافة مثلا بدأت الإدارة المدنية الآن تضييق الخناق على الصحف والمجلات والمنشورات وتفرض رقابة على تلك الكتابات التي ترفض التطبيع مع الاحتلال أو تنتقد سلوك القوات الأميركية بذريعة أن ذلك يخدم سياسات أو بقايا النظام البائد. وفي الحياة المدنية تفرض قوات الاحتلال سلسة شروط تضيق الخناق على الناس وخصوصا بعد غروب الشمس. فهناك الكثير من المناطق يمنع على أهل بغداد التجوال فيها أو الذهاب إليها بالسيارات. وهناك مناطق تخضع للتفتيش الدائم بذريعة الحفاظ على الاستقرار والأمن. وهناك مناطق لا يحق للأحزاب الدعوة فيها أو توزيع منشورات من دون ترخيص من الرقابة. وهناك مساجد وجوامع وحسينيات بدأت قوات الاحتلال تراقبها لاحصاء أعداد المصلين وتصويرهم سرا ووضع ملفات خاصة بهم حتى يتم مقاضاتهم عند الضرورة. والكثير من الحركات والهيئات والشخصيات الوطنية والرموز الدينية والمؤسسات والأندية بدأت تعلن تذمرها من استمرار محاولات الحصار والتضييق عليها.
الأمور إذا ليست على مايرام والرياح تسير عكس ما تشتهي السفن. والقوات الأميركية باقية. فهي لم تأت أصلا لترحل، ووجودها ليس معلقا بوجود بقايا النظام السابق. وعلى المعارضة العراقية ان تعقل ذلك وتبني حساباتها على أن ما حصل في العراق ليس تحريرا من الاستبداد فقط وإنما هو استبدال الاستبداد بالاحتلال أيضا. أما الحرية فهي معلقة الآن والحصول عليها مهمة جديدة ومختلفة تماما عن تلك التي تعودت عليها المعارضة وخصوصا التي استوردت من الخارج
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 293 - الأربعاء 25 يونيو 2003م الموافق 24 ربيع الثاني 1424هـ