أيام احتلال العراق تمر بسرعة وحتى الآن لم تتضح صورة الواقع كما هي. فالاحتلال يصر على أن ما قام به كان لمصلحة الشعب العراقي وأن ما حصل من تدمير وخراب وفوضى هو أفضل بكثير من فترة النظام الاستبدادي. فالاحتلال يقارن نفسه بما مضى (بالماضي) مبتعدا شيئا فشيئا عن الشعارات «الخلابة» و«البراقة» التي وعد بتحقيقها في حال تمكن من إنهاء دولة صدام وعشيرته وأسرته. فالاحتلال يخفي السلبيات والنتائج الكارثية بمجموعة ملاحظات لا صلة لها بالحاضر ولا بالمستقبل بل يلجأ إلى المقارنة مع السابق لتبرير عمله. إلى إخفاء نتائج الاحتلال تحاول واشنطن تجاهل الأسباب التي دفعتها إلى المغامرة بعلاقاتها الدولية وسمعتها وصدقيتها. فتجاهل الأسباب (أسلحة الدمار الشامل) بإثارة فوضى سياسية في المنطقة وتهديد الأطراف المجاورة ودول الجوار هو الجانب الآخر من سياسة التهرب من المسئولية الأخلاقية عن فعل إنساني كان له أثره التدميري على الحياة العامة للناس وتعطيل معيشتهم اليومية وزرع القلق والمخاوف الأمنية في معظم المدن والقرى. فالشعب العراقي ارتاح من النظام السابق إلا انه يعيش حالات من الفوضى التي تزرع القلق الدائم من انهيار الدولة وما جرته من توتر أمني وهواجس اقتصادية إلى المخاوف من غموض مستقبل البلاد وسرقة أمواله وثرواته.
لا يكفي أن يقول الحاكم الإداري بول بريمر انه أفضل من صدام لتبرير احتلال قوات بلاده دولة العراق. ولا يكفي أيضا أن يكرر الكلام نفسه وزير الخارجية الأميركي كولن باول أو رئيس الولايات المتحدة جورج بوش أو وزير خارجيته دونالد رامسفيلد. فالكلام عن ماضي العراق لتبرير حاضر الاحتلال، وما يفعله من دمار وتخريب للقرى والمدن بذريعة ملاحقة فلول النظام السابق لا يعطي الشرعية لمبدأ السيطرة من طريق القوة على بلد يتمتع بالاستقلال والسيادة. كذلك فان التذرع بان النظام الاميركي افضل من النظام البعثي لا يعطي التبرير الكافي لاستخدام تلك الأفضلية كورقة ضغط وابتزاز لسرقة ثروة شعب ومنع مؤسسات البلاد من إنتاج دولة بديلة عن الدولة السابقة.
هذا الأمر خطير للغاية لأنه في حال تشريعه دوليا يصبح من حق أية دولة في أوروبا أو أميركا الشمالية احتلال أية دولة أخرى بذريعة أن نظامها أفضل من النظام القائم في هذا البلد أو ذاك. وخطورة الأمر ان احتمال تذرع الكثير من الدول بنظام الأفضلية مسألة واردة في حال رأت هذه الدولة الأوروبية أو تلك ان من حقها احتلال هذه الدولة الإفريقية أو تلك الآسيوية، من دون تفويض دولي من مجلس الأمن، لأنها رأت أن نظامها السياسي متقدم زمنيا عن ذاك القائم في هذا البلد أو ذاك. فهذا الأمر إذا حصل، يمكن ان يحصل بعد تلك التبريرات التي أخذت الإدارة الأميركية تتذرع بها لاحتلال العراق، فإن العالم يكون قد انتكس سياسيا وتراجع من مستوى مرجعية الأمم المتحدة إلى مستوى «شريعة الغاب».
إلى ذلك هناك أيضا مجموعة أسئلة اقتصادية تثير الشكوك عن الأسباب لقيام هذه الدولة الأوروبية أو تلك الأميركية باحتلال هذا البلد أو ذاك. فالمسألة ليست قانونية أو لها علاقة بالشرعية الدولية فقط بل إنها أساسا تطرح علامات استفهام وتعجب عن العوامل الموضوعية التي دفعت أو شجعت الولايات المتحدة على احتلال العراق أو غيره. فالتذرع بأن واشنطن «حررت» الشعب العراقي من نظامه لا يعني أن الدوافع الحقيقية كانت «خيرية» و«إنسانية» وان لا مصلحة للولايات المتحدة في الاستيلاء على نفط العراق ورهن احتياطاته مقابل مساعدة الشركات على إعادة الإعمار.
المطلوب إذن معرفة الحقيقة وعلى الولايات المتحدة أن تكشف أوراقها وتقول بصدق لجمهورها وللعالم عن الأسباب والدوافع الحقيقية لإعلان الحرب على العراق واحتلاله. فالاكتفاء بالقول ان الاحتلال أفضل من الاستبداد، أو أن لا دور لشركات النفط الأميركية ومجمعات التصنيع العسكري بالتحريض على الحرب لمكاسب مالية ومراكمة الثروات، أو أن لا صلة لكتلة «الشر» المغرورة بالعظمة والقوة والحروب الدائمة (تيار المحافظين الجديد) لتلبية حاجات المافيات في «البنتاغون» الطامحة للسيطرة على مصادر الطاقة في العالم... فإن هذه الأقوال قاصرة وغير مقنعة وربما تفيد الاحتلال بضعة شهور إلا أنها ليست كافية للرد على الأسئلة الحقيقية.
صحيح أن أذرع «مافيات البنتاغون» طويلة وقوية وقادرة على تخويف ألمانيا وإرهاب فرنسا وإغراء روسيا وابتزاز بلجيكا لتغيير قانونها المتعلق بأحوال المحاكمات الجزائية، إلا أن تلك الاذرع ليست كافية لتطويع إرادة البرلمان البريطاني مثلا أو الكونغرس الأميركي وغيرها من هيئات ومنظمات إنسانية ودولية بدأت تضغط لكشف الأوراق ووضع الحقائق كما هي أمام الرأي العام.
إن تضخيم مخاطر الأعداء واستخدام الإعلام لخدعة الناس والسيطرة على أفكارهم خدمت «مافيات البنتاغون» في فترة قرع طبول الحرب... أما الآن الطبول بدأت تقرع بالاتجاه المعاكس. وما أمكن تغطيته أو إثارته في فترة الاستعداد للهجوم لم يعد بالإمكان ممارسة الابتزاز نفسه كما حصل في السابق. فالأمين العام للأمم المتحدة سكت على الفضيحة الدولية وابتلعها، كذلك اضطر أن يفعل كبير فريق المفتشين الدوليين هانز بليكس إلا ان تطور الأمور وانكشاف بعض حقائق لعبة «مافيات البنتاغون» بدأ يشجع الاطراف على قول أجزاء من المعلومات التي تثير الشكوك والشبهات بشأن حقيقة قرار الحرب على العراق. وأقوال بليكس أكثر من مرة وفي المرة الأخيرة كلها تصب في مصلحة لجان التحقيق التي تستعد لمحاكمات نيابية ربما انتهت في المستقبل (وبعد فوات الأوان) إلى محاكمات قضائية.
المسألة إذن بدأت تكبر، وكلام بريمر وبوش وباول ورامسفيلد على «ان الآن أفضل مما كان» لا يكفي قانونيا واخلاقيا لتبرير ما حصل من حرب على العراق وربما غدا على إيران وغيرها من دول الجوار في منطقة «الشرق الأوسط». في النهاية لابد من أن تدفع «مافيات البنتاغون» الثمن بعد ان نال نـظام صدام حسين ما يستحقه من عقاب.
أيام الاحتلال تمر بسرعة في وقت بدأت اللجان النيابية في البرلمان البريطاني والكونغرس الأميركي تحقيقاتها في ملفات الحرب على العراق. وعلى رغم تمتع حزب العمال بالغالبية والحزب الجمهوري بغالبية مشابهة فإن الأهم هو أن تستمر اللجان في تحقيقاتها حتى لو ضغطت «الغالبيتان» على عدم كشف المعلومات كاملة. فالبداية مهما تكن متعثرة أفضل بكثير من أن لا تبدأ. والغاية في النهاية لا تبرر دائما الوسيلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 292 - الثلثاء 24 يونيو 2003م الموافق 23 ربيع الثاني 1424هـ