العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ

البحر... والميت

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ظاهرة عقد المنتديات الدولية تكررت كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة. فهي ازدادت حين تطور الاقتصاد العالمي واتجه إلى مزيد من التدويل في مبادلاته التجارية وتحويلاته المالية والاستثمارية. فالتدويل أسس روابط اقتصادية مستقلة عن السياسة وجعل من المنافع المتبادلة والمصالح المتداخلة أدوات اتصال تتم بين الدول من خارج الأطر السياسية المتعارف عليها بروتوكوليا ودبلوماسيا. فالمنتدى كفكرة هو أقرب إلى ساحة للحوار تستعرض فيها الآراء والتصورات وتوضع على أساسها مخططات مستقبلية لا تملك صفة القرار بقدر ما هي برامج مقترحة للتنفيذ يمكن الأخذ بها أو إهمالها.

إلا أن انعدام الصفة الرسمية - التقريرية للمنتديات لا يعني أن وظيفة اللقاءات معدومة، فهي أصلا وجدت للاستماع والانتباه ووضع الملاحظات على مشكلاتٍ تعطلُ إمكانات التطور وتحدُّ من الطموحات. ومشكلة المنتديات ليست في عدم قدرتها على تنفيذ التصورات وخطط المستقبل فقط، بل في اعتمادها أصلا على فكرة «المساواة» بين المشاركين بينما الواقع يشير إلى نمو التفاوت بين دول العالم.

المشاركون في المنتديات متقاربون في علومهم ومعارفهم وتجاربهم وخبراتهم وطموحاتهم وتصوراتهم... الا أنهم غير متساوين في قدراتهم وامكاناتهم. فهناك أطراف قادرة على الاستفادة من البحوث والآراء والأفكار وتحويلها إلى برامج وخطط عمل قابلة للتنفيذ، وهناك أطراف لا تملك الامكانات التي تساعدها على نقل التصورات عن المستقبل إلى مشروعات فاعلة على أرض الواقع. لذلك أنتجت المنتديات وظيفة جديدة هي اللقاء في مكان واحد للتداول في هموم المستقبل لمدة ثلاثة أيام مثلا، وثم الافتراق إلى أمكنة مختلفة لمدة شهور يستفيد منها القوي لزيادة قوته بينما الضعيف لايزال يبحث عن وسيلة لإنقاذ بلده من الديون والعجز والفساد وربما الفوضى.

مهمة المنتديات العالمية أنها تبحث عن وظيفة اقتصادية خارج أطر علاقات الدول السياسية، ولذلك يتركز جهدها على طرح تصورات عامة تتحدث عن المستقبل (نظام دولي، تطور عصري، اندماج تقني... وإلى آخره من ألفاظ حديثة) وتتجاهل الحديث عن الحاضر كما هو في واقعه المزري. فالتصورات هي أشبه بالوعود أو تمنيات بالنسبة إلى الدول الفقيرة والمسكينة والمستضعفة، بينما هي بالنسبة إلى الدول القوية والغنية محطات انطلاق جديدة للمزيد من التقدم والتطور.

لذلك نقرأ بعد كل منتدى عالمي بحورا من الأفكار والآراء والتصورات في وقت تولد مشروعات كثيرة ميتة بسبب النقص في التمويل والعجز على الاستثمار. فالتنافس الدولي الذي تتعرض له الشركات الصغيرة يحد من فعالية الاقتصادات المحلية نظرا إلى ضعفها البنيوي وعدم قدرتها على استكمال جولات المزاحمة مع شركات كبرى متعددة الجنسية تملك من القدرات والطاقات ما يفوق موازنة دولة معتبرة من الدول المشاركة.

المنتديات أصلا فكرة الأغنياء من الدول لجأت اليها الشركات المتعددة الجنسية للاتفاق على كيفية السيطرة على مصادر الثروة والتجارة الدولية. ومنتدى منتجع دافوس في سويسرا مثلا بدأ لمعالجة العراقيل التي تحد من عمليات السيطرة وليس للبحث في معالجة مشكلات العالم الثالث وانهيار دوله أو على الأقل عجزها عن الخروج من أزمات الديون والفقر والجهل وأحيانا الجوع والمرض والجفاف والتصحر. فعالم المنتديات الاقتصادية هو عالم تحكمه الشركات ورجال الأعمال وهو تأسس بداية لتمييزه عن عالم الهيئات (الأمم المتحدة مثلا) الذي تتحكم فيه علاقات الدول ورجال السياسة. فوظائف المنتديات اقتصادية تديرها شركات ورجال أعمال وتختلف عن وظائف الهيئات الدولية التي تدير شئونها الدول ورجال السياسة.

وبين العالمين هناك بحر ميت يفصل دافوس (سويسرا) عن الشونة (الأردن) والالتقاء بين العالمين في مكان واحد لا يعني أن الهموم واحدة وبأن التقارب بات على قاب قوسين بين رجال الأعمال ورجال السياسة.

فكرة المنتديات هي فكرة شركات وهي جاءت تلبية لنمو مؤسسات اقتصادية متعددة الجنسية وحاجتها إلى نظام دولي يعكس مصالح تطور التجارة الدولية بعيدا عن السياسة ومشكلاتها. وتأسست فكرة المنتديات استجابة لازدياد نفوذ الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية وتطورها على حساب الدول السياسية ودورها المحدود في مجال التخطيط للأعمال ذات البعد العالمي. فالدول السياسية المعترف بشرعيتها واستقلالها في إطار الأمم المتحدة باتت بسبب التفاوت بين مراتب الدول في وضع ضعيف لا يسمح لها باستيعاب النمو المتصاعد للاقتصاد العالمي ونزوعه الدائم نحو المزيد من التدويل. وبسبب تراجع دور الدول السياسية باتت مع مرور الزمن غير قادرة على استيعاب التطور أو السيطرة على نزعة التدويل في المبادلات والاستثمارات.

يفسر هذا النمو المتفاوت بين صعود دور الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية ومراوحة الدول السياسية في مكانها إلى حد كبير تراجع دور مؤسسات الدول (هيئة الأمم المتحدة مثلا) في ضبط ومراقبة المشكلات الاقليمية مقابل نمو دور مؤسسات الاقتصاد (منتدى دافوس مثلا) على حساب العلاقات الاقليمية واختراقها على أكثر من قطاع وحقل.

لاشك في أن عالم الغد هو عالم الشركات لا الدول ورجال الأعمال لا رجال السياسة. فالدول في صيغتها الراهنة تتحرك في مجال سياسي ضيق تلتزم بضوابطه الجغرافية والقانونية ولا تستطيع تجاوزها الا اذا تحولت الدولة إلى قوة كبرى لا تقهر أو تضبط في إطار الأمم المتحدة.

أما الشركات المتعددة الجنسية فانها تتحرك في مجال اقتصادي دولي واسع لا حدود جغرافية - سياسية لأنشطتها وألاعيبها... فهي تستطيع الانسياب من خلال شبكة علاقاتها التجارية والمالية والاستثمارية متجاوزة بذلك الحدود الاقليمية والمحرمات الدولية.

ان مراقبة مشهد المنتديات تكشف عن تداخل عالمين في لحظة انتقالية:

الأول: عالم الشركات ورجال الأعمال، والثاني عالم الدول ورجال السياسة. وبين العالمين «بحر ميت»، الأول: جاء من المستقبل وهو ينمو ويمتد، والثاني: جاء من الماضي وهو يضمر وينكمش. وللأسف، المستقبل للمنتديات لا للأمم المتحدة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً