أسير في مبنى الآداب، هكذا يسميه الجميع. أسير مطأطأة الرأس انظر الى الخط المرسوم فوق الأرض. بإحباط شديد أحس بارتطام كف ما بكتفي. أرفع رأسي، «ما بالك؟» تسألني. «لا شيء» وأنا أبتسم... يؤذيني الابتسام... ولكني أبتسم... تحدق في عينيّ مباشرة... أعرف أنها لا تخترق أعماقي ولكن لِمَ تنظر؟ تقول لي بكم هائل من التوتر وكأنها اكتشفت سر حدائق بابل المعلقة: يا الله! تداخل الشك في ثبات يقيني لوهلة أنها اكتشفت إحباطي، ولكنها عاجلتني بقولها: لِمَ أرى سوادا شديدا أسفل عينيك؟ «السهر» ببساطة شديدة أرد، وأنا أعرف انها أبدا لن تستطيع اختراق هذا السواد الذي أخذ جمال عمقه من جمال دجى الليالي. «لا بأس عليك... هناك نوع جديد من مستحضرات التجميل إذا استخدمته لمدة شهر بانتظام زال هذا السواد» قالتها بقلب يحمل رغبة صادقة في المساعدة! تمنيت حينها لو أستطيع الانقلاب على ظهري والاختناق ضحكا... ولكني بطبيعة الحال لم أفعل... اكتفيت بشكرها ومضيت.
مضيت أبحث عن بارقة أمل تغير واقعي المحبط. إنها الساعة الحادية عشرة صباحا، وتحترق في تابوت الزمن الذي لا يموت. أتجه الى المبنى السابع عشر (س - 17) واركـب المصعد للطـابق الثـــاني إذ أدخل غرفة تحمل رقم (---) فأنا طالبة أدرس هناك مقرر (Reading in Literature) في الشعبة الثانية.
أجد نفسي قابعة على ذاك الشيء الذي يسمى كرسي ويشابهه في اقتناء كل منهما أربع قوائم. تتفرع منه خشبة مسطحة يدعونها طاولة. دفتري أكبر منها! بدأت أعشق هذا الكرسي فكلانا محبط ويعاني. أصبح شريكي في المعاناة. ها أنا أتسلم ورقة امتحان منتصف الفصل. أقرأ السؤالين الأولين. أصاب بذبحة صدرية... اختناق حاد... تقلصات في المعدة... التهاب في المخيخ... فأسقط وأموت ويدفنوني... ولكن قبل أن أحاسب اكتشف بإنه ليس أجلي.. فأعود إلى قراءة باقي الأسئلة «المريخية» التي تحتوي على قليل من بهار زحل وبرود وجفاء بلوتو.
أرى دمعة تترقرق في عين زميلتي. أتمنى لو أمد لها ورقة (كلينكس) وأحتضنها مشجعة إياها وأعزيها في فقيدها. هي مازالت في ربيع الورقة الأولى ولم تدخل بعد صيف صحراء الورقة الثانية وخريف الورقة الثالثة.
أقرر أن أبدأ الكتابة... النقش والزخرفة... النحت والتصوير... لا أدري ما الذي أبدأه... لكني أعلم ان طلاب الفنون يحسدوننا على إبداعنا وعلى القدرة العجيبة في الخلق والتسامي في التصاوير الفنية الإبداعية التي لا يملكونها. ومن المعروف أن الإنسان حين يجرب فكرة جديدة ويستخدم أدواة جديدة فإنه لابد أن يخرج عملا جديدا... وكذلك أنا، ألست أدرس الأدب الإنجليزي؟!
أنهيت إبداعي. ذلك الإبداع الذي لن تستوعبه أستاذة المقرر بسهولة على رغم شهاداتها العالية في هذا المجال. فلا أحد، مهما بلغت شهاداته، يستطيع استيعاب هذا الإبداع غير الطالب ذاته والذي ما أن يخرج من إطار الطالب لغيره ألا ويفقده. أنهيت إبداعي ولكني بقيت في معشوقي أسامره وأداعبه بحذائي! أنظر إلى زميلاتي وزملائي الطلبة والطالبات يهدون أستاذتنا سر الكون في أحرف سكبوها في دم الورقة الخائفة. تطل علي زميلة أهدت سرها وعادت لتحزم كتبها وتمضي. ترمقني بابتسامة وتقول: «لقد أستسلمت». أبتسم لها. وكم يؤذيني الابتسام. ودعتها بنظرة دافئة شيعتها الى زرقة سماء لا نراها. أحس بيد تحط على كتفي خطوطا سريعة ثم تقلع ماضية لتسلم سرها السماوي في مطار أصاب عقده الخامس وتجلت خطوطه بوضوح شديد. هذه المرة هي من تبتسم... وكم يؤذيها الابتسام... في لحظة ضعف وقهر وسقم... تحط يدي على إقلاعة يدها تمنحها تعزية من فقيد.
انتهى الوقت. أقبل يطالبني بأوراقي البيضاء وقد اتشحت بزرقة قلم ظللها بحبه. أهديها اياه وأعلم إني سأتسلم جثتها مخضبة بالدم مثخنة بجروح وزعت بدقة في كل ركن من زوايا ثغرها.
يخرج الوحش بغنائمه. أنظر إلى زميلة تبتسم لكي لا تبكي. أعلمتني بعد ذلك، أنها عندما بلغت منزلها أمطرت دمعا ساخنا. أسألهم: «بنات... السؤالين الأولين هل شرحت الأستاذة فحواهم في المحاضرات السابقة؟». تجيبني إحداهن: «كلا! لقد أشارت إلينا مسبقا ولكنها لم تجبهما ولم تشرح باقي الدرس معللة ذلك بإعطائنا بعض النقاط المهمة التي يجب مراعاتها في الامتحان». سألت: «إذا، هي أعطتنا النقاط بلا أجوبة؟ وبالتالي وجب عليها تصحيح الالتزام بالنقاط كالكتابة بالحبر وليس الرصاص، بدلا من تصحيح الإجابات!».
طبعا لن أتكلم عن جثة عذرائي التي لم أستطع أن أبكي عليها لشدة دهشتي لما أصابها من تشوه. ولن أتكلم عن السواد الذي اتسع عمقه أسفل عيني ليأوي طفلا جديدا يتيما يحلم بأن يصبح طبيبا في يوم من الأيام ليشفي الناس من الصدمات العصبية التي يسببها لهم الوحش الذي في أعلى الجبل قابعا على شهادة تاريخية تثبت أنه مهما مات فإنه يعيش في كل دهر مرتديا أجل الأثواب وأكرمها. وفي النهاية أؤكد أن الوقت غير مناسب الآن لأتكلم عن أكثر من اختطاف العذراء.
بعد ذلك أمشي وأنا أحس بالإحباط والضعف والانهزام الشديد، أشعر بمرارة تزيد لوعتي وترميني الى السحيق. أحس بأنني المحذوف تحذفني أداة الحذف، والمنهي تنهيني أداة النهي، فمرفوع ومجرور ومكسور بلا أمل بأن يحيا
العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ