قبل ان يجف حبرها لحقت «خريطة الطريق» بأخواتها من الاتفاقات والمبادرات التي اغتالتها «اسرائيل» الواحدة بعد الأخرى. ماتت على مرأى ومسمع الرئيس جورج بوش الذي سارع الى الانسحاب من ساحتها وبلع لسانه أمام التحدي الاسرائيلي ليعود الى قواعده سالما ومنها يرجع الى إعادة وضع الملامة على الجانب الفلسطيني وتحميله المسئولية من خلال تهمة «الارهاب» الاحتلال في كتاب إدارته «ليس هو المشكلة». المشكلة في ازعاجه تماما كما تراها «اسرائيل». والسبب المباشر لقتل «الخريطة» هو ان الطرف الفلسطيني لم يسارع الى تنفيذ المطلوب منه والذي يشكل الهدف الأصلي والمركزي لها: الدخول في حرب أهلية فلسطينية، تحت يافطة ضرب «الارهاب». ولأن السلطة أو الحكومة الفلسطينية رفضت أو تأخرت أو ترددت في القيام بهذه المهمة، ولأن ارييل شارون لا يسعه الانتظار، كما قال جرى الانقضاض على «الخطة» وهي مازالت على الورق.
لكن في كل حال، هذه الملهاة التي اطلق عليها اسم «خريطة الطريق» ولدت حكومة بهذه النهاية، لعدة أسباب:
1- الإدارة مقسومة ليس سرا في واشنطن ان هذه المبادرة، على رغم كل فجواتها، لا تحظى إلا «بدعم خجول» من جانب الفريق الأقل نفوذا في الإدارة والمتمثل بالوزير كولن باول وبعض معاونيه. الجناح الوازن والمقرر، المتمثل بالصقور المعروفين ليس فقط غير مؤيد أو فاتر التأييد لها. هو من الأساس ضدها. حرض ولازال يحرض شارون وحكومته على رفضها. وفي أحسن الأحوال على الالتفاف عليها واسقاطها. أحد المسئولين في دائرة «الشرق الأوسط» التابعة لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض - ابليات ابرامز - افصح عن ذلك في جلسة خاصة مع زوار عرب. وشارون العازم على تعطيل أي تسوية والمستقوي بهذا الجناح يدرك مدى تردد الرئيس بوش في الالتزام بهذه المبادرة من الأساس. كما يدرك مدى انحيازه لهذا الجناح في رسم السياسات الخارجية عموما والشرق أوسطية خصوصا. لذلك لم يتأخر في تفجير «الخطة» الملفوفة أصلا وبالتالي في حمل الرئيس بوش على التكويع السريع حتى عن عبارة امتعاض بسيطة، ربما كانت «زلة لسان» منه، عندما قال إنه «انخفض بشدة» على إثر محاولة «اسرائيل» اغتيال أحد قادة حماس قبل أيام.
2- الزعامة مفقودة. صحيح ان أميركا يحكمها نظام قائم على مؤسسات راسخة وليس على زعامة فرد أو رئيس. لكن مواصفات الزعامة القوية، بما هي قدرة على اتخاذ القرارات الكبيرة والتاريخية، لابد من توافرها في الرئيس عندما تتطلب الأمور هذا النوع من القرارات. هكذا كانت الحال مع الرؤساء البارزين في التاريخ الأميركي، مثل لنكولن وروزفلت وغيرهما. كانت لديهم القدرة والعزم على كسر المألووف والتمرد عليه وبصورة حاسمة، ثم جر المؤسسات الى الوقوف وراءهم. مثل هذا الوثوب القيادي يشترط تجاوز الحسابات الصغيرة الضيقة: الانتخابية والمحلية.
الرئيس بوش ليس من هذا الصنف فلا هو يمتلك شروطه ولا هو مؤهل ليرتقي الى مصافه. وبالتالي فإن مبادرته أو خريطته بشأن صراع بحجم ودرجة الصراع العربي - الاسرائيلي، وخصوصا في حلقته الفلسطينية، لن تكون مختلفة عن السوابق من مثيلاتها. فهذه القضية بقدر ما باتت معقدة، بقدر ما تحتاج الى قرار أميركي صريح وبسيط في مضمونه وغايته - إذا كان هناك، على سبيل الجدل، امكان لتسوية سلمية لها - يتخلص في مطالبة الاحتلال بالزوال والاستيطان بالرحيل. كل ما عدا ذلك لا جدوى منه والتجارب التي مرت بها خير دليل.
3- الخطة معطوبة. من الأساس كانت «الخريطة» بلا طريق. هذا في أحسن الأحوال. وفي واقع الحال كانت طريقها العدم. فهي من البداية جاءت ملتبسة وغير مكتملة. ناهيك بانها غير هادفة وغير حاسمة. كشفت عنها إدارة بوش للمرة الأولى «كرؤية» لحل الصراع. ثم انبثقت عن هذه الرؤية فكرة «دولة مؤقتة» للشعب الفلسطيني. بدعة لم يسمع بها أحد من قيل، بعد ذلك طرحوا صيغة ما يسمى بـ «خريطة الطريق» التي قيل انها تم التوافق عليها في اللجنة الرباعية الدولية. ثم حصل عليها تعديلات، بعد اعتراضات اسرائيلية عليها.
في سياق هذه الولادة كان شاغل الإدارة الأميركية عدم ازعاج «اسرائيل» ومراعاتها بل مراضاتها، بالترافق مع ممارسة كل الضغوط على الجانب العربي والفلسطيني لحمله على الاذعان. وفي هذا الخلل كان المقتل. والأنكى ان الطرف الثاني كان شبه متهافت على القبول وشبه متهور في تقديم التنازلات. الأمر الذي صب في تغذية التعنث الاسرائيلي والمراوغة الأميركية.
أية خطة أو مبادرة أو مشروع تشويه لا يتعاطى رأسا مع مكمن العلة: الاحتلال والاستيطان، فهو معطوب عضويا ومكتوب عليه الانهيار. على الأقل هذا ما تقوله مسيرة ما يسمى بـ «عملية السلام»! التي باتت تستحق اسم عملية بيع الاوهام. و«الخريطة» العتيدة تنتمي الى هذه الخانة بامتياز.
4- المنطقة مهزومة، وهنا بيت القصيد، فطالما هي مستباحة تتجول الهزائم في ساحتها، طالما بقيت المبادرات أو ما شابه، على قدر أحوالها. أميركية كانت أم دولية، لاسيما في هذا الزمن، إذ بلغ التوافق الأميركي - الاسرائيلي ذروته، بل اكتماله، وإذ تعتمد إدارة بوش سياسة متشددة تجاه المنطقة اجمالا وبدرجة غير معهودة وتحديدا تجاه القضية الفلسطينية التي تتطلع الى تصفيتها مرة والى الأبد، لصالح «اسرائيل».
الذين انبهروا بتحرك الإدارة الأميركية الأخير وزيارة بوش أخيرا للمنطقة واشرافه على قمتي شرم الشيخ والعقبة وجدوا انفسهم أمام خيبة سريعة وجديدة. فالرئيس بوش الذي أراد اشاعة الانطباع بأنه مصمم هذه المرة على الوقوف بوجه التعنت والخداع الاسرائيليين، سرعان ما هرول الى التراجع، عند أول اختبار اسرائيلي لالتزامه «بخريطته». وكان من الملاحظ ان تراجعه سرى بمؤازة التصعيد الاسرائيلي الذي استعجله شارون والذي بدأه بعد ساعات من انفضاض قمة العقبة. فهو عارف تماما بالرخاوة وبعدم الجدية الأميركية، ناهيك عن الاهتراء العربي الذي لم يكن بمقدوره سوى اعتماد مفردات الخطاب الأميركي ومطالبه، على أمل «سحب الذرائع» من يد واشنطن وتل ابيب، أو على الأقل «تقليل خسائر» اللحظة الراهنة. لكن مأزق هذا التوجه تفاقم، ومازال محكوما بالمزيد من التفاقم طالما بقي اسير هذه المقاربة التعيسة للصراع. واذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يبلع بوش لسانه والخريطة والمنطقة معهما؟
العدد 288 - الجمعة 20 يونيو 2003م الموافق 19 ربيع الثاني 1424هـ