أعلن الرئيس الاميركي جورج بوش في التاسع من مايو/ آيار 2003 عن مبادرة اقتصادية جديدة، من خلال طرحه حزمة من الاجراءات والسياسات التي يرغب في فرضها على منطقة الشرق الأوسط، وهناك الكثير من القضايا التي يمكن طرحها من خلال ما اعلنه الرئيس الاميركي في خطابه في جامعة «ساوث كارولينا»، الا اننا سنتعرض فقط إلى الجانب الاقتصادي.
وتتخلص رؤية الرئيس بوش الاقتصادية في النقاط الآتية:
أولا: اقامة منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة الاميركية والشرق الاوسط خلال عقد من الزمن، وطبعا فإن هذه المنطقة تضم «اسرائيل».
ثانيا: ربط بين غياب الحرية، والعزلة والكساد، وهنا جاء دور الوقت الذي يستخدم فيه تقرير التنمية الانسانية للعام 2002 الذي ركز على نقص الحرية في البلاد العربية، إذ يستخدم الآن «بوش» هذا التقرير ليؤكد بعضا من آرائه، ولا سيما تلك المتعلقة بالحرمان من الحقوق والفرص للنساء.
ثالثا: يرى الرئيس الأميركي أن التقدم يتطلب التجارة، التي هي محرك التنمية الاقتصادية.
رابعا: يستخدم الرئيس بوش مرة أخرى تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2002 الذي ركز على نقص الحرية في البلاد العربية، إذ يستخدم بوش الآن هذا التقرير ليؤكد بحسب ما جاء فيه ان مجموع الناتج المحلي الداخلي لجميع الدول العربية هو اقل من ناتج اسبانيا، وان مجموع العرب الذين يستخدمون شبكة الانترنت هو اقل من عدد الذين يستخدمونها في دول افريقيا جنوب الصحراء.
خامسا: يرى بوش ان الأسواق الحرة في جميع أنحاء العالم ساهمت في هزيمة الفقر وعلمت الرجال والنساء عادات الحرية، ووعد «بوش» باحلال الأسواق الحرة والتجارة العادلة محل الفساد في الشرق الأوسط، الأمر الذي سيجعل مواطني الشرق الأوسط يعيشون في حرية وازدهار.
سادسا: ربط الرئيس الأميركي بين الفرص الاقتصادية وتطوير التعليم، ولاسيما تعليم النساء.
سابعا: ويرى الرئيس انه في نهاية المطاف ان النجاح الاقتصادي والكرامة الانسانية يتوقفان على حكم القانون وتطبيق العدالة بطريقة نزيهة.
ويذكرنا مشروع الرئيس الاميركي الجديد لاقامة منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة الاميركية والشرق الأوسط بمشروع الشرق الأوسط الجديد - القديم الذي طرحه «شمعون بيريز» برعاية اميركية بعد اتفاق أوسلو، وقد نشر بيريز مشروعه هذا في كتاب ترجم إلى العربية في حينه ويركز بيريز على أن السلام والأمن يقتضيان (ثورة في المفاهيم)، ويحدد الهدف النهائي بأنه (خلق أسرة اقليمية من الأمم، ذات سوق مشتركة، وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوروبية).
ويتقارب مشروع بيريز مع مشروع الرئيس الاميركي بوش، حين يركز على اربعة عوامل جوهرية يحتاجها الاطار الاقليمي، وهي:
1- الاستقرار السياسي، ويشير في هذا المجال إلى خطر الأصولية الاسلامية.
2- الاقتصاد، بهدف رفع مستوى المعيشة والوقوف في وجه الاصولية، باقامة منظمة اقليمية تتحرك على قاعدة فوق قومية (وفق مبادئ السوق الحرة وبتقسيم جديد للعمل بين الدول).
3- الأمن القومي، باقامة نظام اقليمي للرقابة والرصد.
4- اشاعة الديمقراطية، (فالشرق الأوسط يحتاج الديمقراطية حاجة البشر إلى الاكسجين). ويدعو شمعون بيريز للنظر إلى المنطقة وكأنها مشدودة بأربعة أحزمة اقتصادية - سياسية:
- الحزام الأول نزع السلاح.
- الحزام الثاني: المياه والتكنولوجيا الحيوية والحرب على الصحراء.
- الحزام الثالث: الهياكل الارتكازية للنقل والاتصالات.
- الحزام الرابع: السياحة (باعتبارها صناعة مهمة، تستطيع في فترة وجيزة نسبيا أن تدر الارباح وتوفر فرص العمل).
والمسألة الاقتصادية ليست جديدة ايضا في (مشروع الشرق الأوسط الجديد)، ذلك ان لها جذورها في المشروع الصهيوني منذ «تيودور هرتزل» ومؤتمر بازل في العام 1897، وقبل ذلك، كما ان الكثير من مؤسسات البحث والدراسات الاستراتيجية والجامعات في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا اهتمت بوضع تصوراتها بشأن مستقبل المنطقة العربية بزعامة وهيمنة «اسرائيل» والحركة الصهيونية، وبدأ ذلك خصوصا بعد عدوان الخامس من يونيو/ حزيران 1967، ففي نهاية ذلك العام أحدث المليونير اليهودي «روتشيلد» معهدا من أجل السلام في الشرق الاوسط بالقرب من جنيف مهمته الاساسية دارسة احتمالات التعاون الاقتصادي في الشرق الاوسط بعد تسوية الصراع العربي - الاسرائيلي وانهاء حال الحرب والبحث عن وسائل اقامة علاقات تجارية بين «اسرائيل» والمنطقة العربية، وفي «اسرائيل» ذاتها، أسست جمعية اسهما «من أجل السلام في الشرق الأوسط» في العام 1968، مهمتها وضع مخطط لفرض هيمنة «اسرائيل» الاقتصادية على الوطن العربي، وركزت هذه الجمعية على تحقيق النفوذ التكنولوجي الكامل لـ «اسرائيل» على البلدان العربية.
لكن الجديد في مشروع الرئيس الاميركي لاقامة منطقة تجارة حرة بينها وبين دول المنطقة البالغ عددها (22) دولة، أي الدول العربية و«اسرائيل»، وان هذا المشروع يأتي بعد، أو من خلال مجموعة من الحوادث والقضايا:
أ - أولها احتلال العراق من قبل القوات الاميركية - البريطانية وما تولد عنه من أوضاع مستجدة جعلت من الجيوش الغازية قوة احتلال تهدد أمن المنطقة كاملا.
ب - تفاقم الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة الاميركية.
جـ - ان هذا المشروع يأتي في اطار مشروع أشمل يهدف إلى التوصل إلى تسوية للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي.
د- وهو يأتي ايضا بعد اعلان استراتيجية الأمن القومي الاميركي ووضعها موضع التنفيذ، إذ بدأ ذلك بالحرب العدوانية ضد العراق، والمعروف ان هذه الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الاميركي في سبتمبر/ ايلول 2002 لها جانبها الاقتصادي، فقد نصت هذه الاستراتيجية على أن (اقتصادا عالميا قويا من شأنه أن يعزز الأمن القومي الاميركي من خلال دفع قضية الرفاه والحرية في بقية أرجاء العالم)، وتعتقد الاستراتيجية الاميركية ان النمو الاقتصادي المدعوم بالتجارة الحرة والاسواق الحرة، يخلق المزيد من فرص العمل ومعدلات دخل أعلى.
لذلك فإن استراتيجية بوش للأمن القومي تعد بأنها ستعمل (على تعزيز النمو الاقتصادي والحرية الاقتصادية إلى حدود اميركا).
هكذا، فكما كانت المنطقة العربية حقلا لزرع الوجود العسكري الاميركي، وفرض الاحتلال الاستعماري بمفهوم القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وبالتالي فرض الهيمنة الاميركية على العالم، وستكون هذه المنطقة ايضا مجالا لفرض نظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق (النمو الاقتصادي والتجارة الحرة والأسواق الحرة).
وقد ربط الرئيس الاميركي مشروعه الجديد بقيام الحكومات باتخاذ عدد من الاجراءات، أهمها السير بعملية الاصلاح الاقتصادي، طبعا من خلال المفهوم الليبرالي الاقتصادي الجديد، واجراء اصلاحات ضرورية مثل مكافحة الفساد والارهاب وحماية حقوق الملكية الفكرية وتحسين مناخ الاستثمار... الخ. هكذا، فإن الحرب العسكرية العدوانية التي أوجدت أوضاعا وسياسية جديدة في المنطقة لابد من استكمالها بسياج اقتصادي يتمثل في مشروع «بوش» الاقتصادي.
ويذكرنا هذا المشروع ايضا بمشروع «ما رشال» في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اتجهت الولايات المتحدة الاميركية إلى مساعدة اوروبا في إعادة تعمير ما خربته الحرب بمشروع «ما رشال» الذي تم بموجبه تخصيص مبالغ كبيرة من الولايات المتحدة الاميركية للنهوض بالاقتصاد الاوروبي، وبينما كان من أهداف مشروع «مارشال» «تدعيم أنظمة حكم أوروبية تستطيع الصمود في وجه الاتحاد السوفياتي وتجربته الاشتراكية، فإن الهدف السياسي من مشروع «بوش» هو تدعيم انظمة حكم في البلدان العربية تستطيع (مكافحة الارهاب) والقضاء على الأصولية الاسلامية، وبينما كانت الخلفية النظرية الاقتصادية لمشروع «مارشال» نظرية كينز «التدخلية التي قادت إلى الازدهار والنمو الاقتصادي، فإن الخلفية النظرية لمشروع بوش هي الليبرالية الاقتصادية الجديدة القائمة على حرية الأسواق وحرية التبادل التجاري والاقتصادي والتجارة.
لقد تمكنت أوروبا بفضل السياسة «الكينزية» القائمة على تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وعلى دور الدولة في الشأن الاجتماعي، أن تعيد بناء اقتصادها بمعونة «ما رشال» المالية، وبالتالي تحقيق تقدم اقتصادي وازدهار.
أما مشروع الرئيس المبني على قاعدة الاقتصاد الحر، فانه سيقود دول المنطقة إلى المزيد من التخلف وإلى توسيع دائرة الفقر والبطالة، عدا عن انه يستهدف ثروات المنطقة، فبينما أعطى مشروع «مارشال» لأوروبا المساعدات، فإن مشروع «بوش» سيسحب ما بقي من الثروات العربية، عدا عن ان هدف مشروع الأساسي هو دمج «اسرائيل» في نسيج المنطقة العربية وتنصيبها على رأس قمتها الاقتصادية، بعد أن تربعت على قمة المنطقة سياسيا وعسكريا، لكن لا عجب، فبعد ان اثبت النظام الاقليمي العربي هشاشته وضعفه تجاه ما جرى ويجري في العراق، كما أثبت عجزه عن معالجة القضية الفلسطينية فانه اليوم يخلي الساحة الاقتصادية لمشروع، بعد ان أخفق في اقامة الحد الادنى من التعاون والتنسيق الاقتصادي بين الدول العربية
العدد 287 - الخميس 19 يونيو 2003م الموافق 18 ربيع الثاني 1424هـ