من عملية «شبه الجزيرة» إلى «عقرب الصحراء» تتواصل الضربات الأميركية، وتتصاعد أعداد الضحايا. ويقول الأميركيون إن هجماتهم هي ضربات وقائية أو ردا على هجمات. وانها تبغي القضاء على مقاومة بقايا «النظام السابق» و تصفية اعداء السلام.
ويرى مراقبون أن تلك الهجمات هي بداية لحرب عصابات من نوع خاص، في حين يشير آخرون إليها بوصفها نابعة من غضب الأهالي من سوء الأوضاع والتدهور الأمني الذي يعم البلاد منذ الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين. في حين تدور تكهنات بأن المقاومة القائمة باتت تلفظ انفاسها. والوصول إلى الحقيقة ليس يسيرا في كل الاحوال، سيما وان الاعلام لا يكون حاضرا لتصوير لدغات العقرب للمقاومين.
ولكن مع ذلك يمكن تصنيف ما يجري حاليا في الكثير من المدن العراقية باعتباره مرحلة ثانية من صراع الارادات بين العراقيين والجنود الأميركيين، وأهم ما يميز هذه المرحلة من الصراع هو ان العمليات الحربية الاميركية المتواصلة بكثافة تتجاوز مفهوم مواجهة المقاومة او الجيوب التي تركها النظام السابق خلفه الى فرض مفهوم الوجود العسكري الأميركي على العراقيين بالكيفية التي تقرر رسم مستقبل العراق بغض النظر عما تعكسه الارادة العراقية.
وفي المقابل يبرز نشاط متصاعد للتعبير عن رفض المنهج الاحتلالي من الجانب العراقي ليس عبر ارتفاع وتيرة هجمات المقاومة واتساع رقعة المقاومين وتزايد أعدادهم فقط، وإنما في رفض القرارات والاوامر التي تصدرها سلطة الاحتلال. وفي المقدمة منها قرار تسليم الأسلحة الموجودة في كل مكان وعند من كان. وكان الجيش الأميركي ذكر أن العراقيين سلموا خلال فترة السماح التي منحها القرار 123 مسدسا و76 بندقية نصف آلية و435 بندقية آلية و46 مدفعا رشاشا و11 مدفعا مضادا للطائرات و381 قنبلة، ويعد ذلك نقطة في بحر الأسلحة التي يمتلكها العراقيون.
وفضلا عن هذا وذاك، برزت تكتيكات جديدة في عمليات المقاومة تعكس ان ثمة تخطيطا منظما بات يسود تلك الهجمات. فبعد إدراك المقاومين ان ظلام الليل لم يعد صديقهم في ظل التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به القوات الأميركية التي بحوزة جميع أفرادها المناظير الليلية، فإنه على ما يبدو اصبح النهار وارتفاع درجات الحرارة الصديق الجديد لهؤلاء المقاومين، إذ تزايدت الهجمات في ساعات الصباح إذ ينعدم تأثير معدات الكشف الليلية العاملة بالأشعة تحت الحمراء. وكثرت - وعلى نطاق أوسع - الهجمات عند الظهيرة حين ترتفع درجات الحرارة الى اكثر من خمسين درجة مئوية في معظم الاحيان.
وأضحى المقاومون على ما يبدو اكثر إدراكا ان الهجمات بالأسلحة الرشاشة لا تؤدي فعاليتها المطلوبة، مع ارتداء الجنود للدروع المضادة للرصاص على صدورهم، والخوذات التي تقاوم الاطلاقات النارية من العيار الخفيف، لذلك صار هؤلاء المقاومون يزيدون من استخدام القنابل اليدوية وقواذف الـ (آر. بي. جي) الخفيفة التي تحمل على الكتف في تنفيذ الهجمات التي كثيرا ما تطال القوات التي تقوم بدوريات أو الجنود الذين يقيمون نقاط تفتيش على الطرقات.
و ليست دائما مؤشرات النجاح التي تحققت في حسابات المقاومين شجعتهم على توسيع نطاق هجماتهم باتجاه الاقتراب من الثكنات التي توجد فيها القوات الأميركية. وانما ايضا ان العمليات العسكرية داخل مناطق مدنية وشن حملات اعتقال واسعة والاستجواب غذت المشاعر المناهضة للاحتلال، وبالتالي فإن المقاومين يريدون عبر استمرار عملياتهم استثمار المشاعر المناهضة للاحتلال من اجل كسب المزيد من المؤيدين الداعمين لهذه المقاومة وتحويلهم من مجرد انصار داعمين لها الى منخرطين فيها.
واذا كان الجنود الاميركيون باتوا يتمترسون خلف الدروع البشرية التي توفرها اجساد الصغار، فإن المقاومين صاروا يتمترسون بالسخط الذي يشتعل في نفوس الكبار. وبكلام واضح ومحدد، فإن الجنود الاميركيين الذين ينتشرون في الاحياء السكنية باتوا يغرون الاطفال بغية الالتفاف حولهم، فتراهم يقدمون لهم المشروبات الغازية وقطع الحلوى لمنع تنفيذ هجمات ضد الجنود الاميركيين فيما الاطفال الى جوارهم. وعلى النقيض من ذلك، فإن المقاومين صاروا يستثمرون اجواء الاحباط والسخط من جنود الاحتلال التي باتت تسود الشباب والنساء والرجال لكي يحصلوا على دعمهم على الاقل للتستر عليهم او الحصول على العون اللوجيستي بما يؤمن قدرا كاف من النجاح لعملياتهم.
الليفتنانت مايك روبيسون، قائد سرية من الفرقة (489 مهندسون) يعبر بصراحة عن أنه بات يخشى الاطفال العراقيين ويقول: «عليّ أن أغير طريقي كل يوم حتى لا يحطم أطفالهم زجاج سيارتي الأمامي». وهذا يعني ان الاغراءات التي تقدم للاطفال لم تعد تصلح دائما ليشكلوا دروعا للجنود الاميركيين امام توجيهات الاهالي التي باتت تغذي المشاعر المضادة للجنود الاميركيين.
ولكن مع ذلك، فإن المأزق يطال الطرفين. فالطرف الاميركي الذي جاء بعنوان المحرر اصبح موصوفا بالمحتل الطامع الغازي، والمقاومة نفسها باتت في خندق واحد مع رموز النظام السابق الذين يرون في المقاومة الخيار الافضل من الوقوع في الاسر. ومأزق المقاومة يكمن في انها باتت محسوبة على النظام الذي انفتحت ملفات فضائحه من دون ان يترك مجالا للتستر عليه و بما لا يتيح حيزا لتجميل صورته.
ومع المأزق الذي يجد كل طرف نفسه فيه، يبدو ان أفق الاوضاع بات مفتوحا على كل الاحتمالات السارة وغير السارة
العدد 287 - الخميس 19 يونيو 2003م الموافق 18 ربيع الثاني 1424هـ