العدد 287 - الخميس 19 يونيو 2003م الموافق 18 ربيع الثاني 1424هـ

النموذج الأميركي... والعنصرية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تشهد ولاية ميتشيغان الاميركية (شمال وسط الولايات المتحدة) اضطرابات عنصرية بعد أن أقدمت الشرطة على اطلاق النار على شاب أسود وقتلته من غير حقٍّ. قتلت الشرطة الشاب الافريقي بسبب لونه. وهذا الأمر يتكرر يوميا في مختلف ولايات اميركا الا انه لا يتحول دائما إلى اضطرابات عنصرية، كما هو حاصل الآن في ميتشيغان.

المسألة اللونية هي واحدة من أعقد المشكلات التي تواجهها اميركا منذ تأسيسها وتحديدا منذ اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في العام 1860. وعلى رغم الاجراءات التي اتخذتها الدولة لمعالجة هذه الثغرة دستوريا فإن التمييز استمر على المستويين السياسي والاجتماعي اضافة إلى انكماش العلاقات الشخصية بين افراد «المجتمع الاميركي» الأمر الذي عطل الكثير من محاولات الدمج والصهر التي خططت لها إدارات البيت الأبيض.

ما يحصل الآن في ولاية ميتشيغان تكرر حصوله في معظم ولايات اميركا وتحول احيانا إلى اضطرابات عنصرية تذكر دائما بتلك الايام الصعبة التي مرت بها مؤسسات الدولة في فترات متقطعة في عهود الحزبين الجمهوري والديمقراطي وانتهت الى سلسلة مواجهات دموية وسلمية في عهد الرئيسين جون كيندي وليندون جونسون في مطلع ستينات القرن الماضي.

وعلى رغم ان جونسون اضطر إلى اصدار قوانين مدنية تحرم التمييز العنصري في اميركا بسبب حاجته إلى القوة السوداء واعادة استخدامها في حرب فيتنام استمر التمييز الاجتماعي (الثقافي والديني) ضد الفئات المتنوعة التي يتألف منها المجتمع وتحديدا ضد الأفارقة والآسيويين واللاتين والمسلمين. وكانت المواجهات تندلع عند حصول أول خطأ او حادث (مروري أحيانا) الامر الذي عزز نظرية فشل التجربة الاميركية (دولة صهر الأعراق والألوان والثقافات والديانات) وأفرز مفاهيم متضاربة من المدارس العنصرية التي تقول ان اميركا تعني فقط تلك الهجرات الاولى التي جاءت من اوروبا وأطلق عليها اختصارا كلمة: واسب. وكلمة واسب مركبة وتتألف من الأحرف الأولى من جملة طويلة هي: أبيض (و) وانغلو (أ) وساكسون (س) وبروتستانت (ب). هذه الاحرف شكلت عقدة لكل الفئات الاميركية التي انخدعت بمظاهر «الحلم» وحين عاشته اكتشفت الكوابيس.

وحتى الآن لم تنته العقدة على رغم ارتقاء الكثير من الملونين درجات السلم وصولا إلى أعلى المناصب والرتب والرواتب. فالمشكلة ليست في وصول بعض المتفوقين إلى مراكز عليا في مؤسسات الدولة (الكونغرس والبيت الأبيض) بل في البناء التحتي. ففي العلاقات التحتية استمر التمييز على مستوى التوظيفات في الشركات الخاصة والمؤسسات العامة كذلك في انعدام الفرص المتوازنة وعدم توافر المساواة بين مختلف قطاعات المجتمع وتحديدا حين يكون التنافس بين الألوان على مستوى مشترك. فالاختيار في تلك القطاعات يقع دائما على الرجل الأبيض، وبين فئة البيض يتنافس البروتستانتي مع الكاثوليكي. فالكاثوليكي الابيض يأتي في الدرجة الثانية، ثم يأتي الارثوذكسي الابيض (القوزاق) في الدرجة الثالثة. وبعد الارثوذكسي (الاوروبي الشرقي) يأتي دور اللاتيني في الدرجة الرابعة. وبين اللاتين (ايطاليا واسبانيا والبرتغال) والهاسبنكس وهم (لاتين اميركا الجنوبية) هناك مشكلة تحسم دائما لمصلحة اللاتيني الاوروبي (الجنوبي) على حساب اللاتيني الاميركي الجنوبي الذي يحتل المرتبة الخامسة. بعد اللاتيني يأتي دور الشعوب الآسيوية، فهناك الياباني اولا ثم الكوري ثانيا واحيانا الصيني ثالثا وتستمر حلقات السلسلة وصولا إلى الهندي والباكستاني والايراني والتركي وأخيرا العربي.

بعد آسيا تأتي شعوب افريقيا وفيها ايضا درجات ومراتب وصولا إلى التمييز بين الافريقي (الاميركي) الذي استرقّ بعد الاكتشافات الجغرافية، والافريقي المهاجر حديثا بحثا عن عمل أوحلم جميل شاهده في فيلم هوليوودي.

أصعب مسألة وأعقدها على الاطلاق تواجهها الادارات الاميركية هي مشكلة العلاقات مع المسلمين. فالدولة حتى الآن ضائعة في تحديد هوية مشتركة للدين الاسلامي. وكذلك غير قادرة على حسم موقفها والاتفاق على تعريف نهائي يصنف المسلمين في خانة عرقية (لونية). فالمسلمون في اميركا هم مجموعات مختلفة من الألوان والأقوام وينتمون قوميا إلى 60 جنسية من الصين والهند وباكستان وإيران وتركيا والدول العربية والافريقية اضافة إلى مجموعات متنوعة تنتمي إلى شعوب اوروبية (شرقية وجنوبية ووسطى).

الدولة الاميركية (علمانية) الا أن بنيتها التحتية متدينة تقوم على مزيج مركب من عناصر وألوان وأقوام متنافرة من شعوب وحضارات وثقافات. وهذا التعقيد ضاعف من مشكلة المسلمين في اميركا وأسهم في اطلاق تيار عنصري يكرههم لأسباب مختلفة ومتنوعة، فهناك الاختلاف الديني مضافا اليه سلسلة فروقات لونية وثقافية. وهذا ما جعل امكانات اندماج المسلمين في المجتمع الاميركي أكثر صعوبة من الفئات الاخرى غير المسلمة حتى لو كانت نازحة (مهاجرة) من المناطق والدول نفسها في افريقيا وآسيا والدول العربية.

الآن، جزء من هذا التيار العنصري الكاره للمسلم موجود على رأس هرم السلطة (البيت الابيض والبنتاغون) وهو يتحالف مع اصحاب المصلحة في خوض حروب دائمة ضد العرب والمسلمين لإضعافهم في مناطقهم وفي أميركا نفسها. الا ان هذه السياسة التي يقودها تيار يطلق عليه مجازا (المحافظون الجدد) لتصدير الأزمة الاميركية الى الخارج باطلاق سلسلة حروب لا تنتهي ستنقلب عليه في الداخل في سلسلة أزمات أهلية تقوم على مسألة التفرقة بين ابناء الجنسية الواحدة. وما يحصل الآن في ميتشيغان ليس الاخير وسبقه الكثير من الاضطرابات شهدتها ولايات كثيرة في فلوريدا وتكساس وكاليفورنيا.

اميركا الآن دولة قوية في الخارج وهي الاقوى في العالم وربما في التاريخ... الا انها دولة ضعيفة داخليا فهي غير قادرة على دخول عشرات الاحياء في عشرات المدن بعد الساعة التاسعة مساء. والدولة التي لا تستطيع فرض سلطتها في الكثير من أحياء مدنها هي دولة غير مؤهلة لقيادة العالم الى نظام ديمقراطي متقدم. ومثال افغانستان وربما العراق أكبر دليل على فشل «النموذج الأميركي»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 287 - الخميس 19 يونيو 2003م الموافق 18 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً