بعد ضرب العراق واحتلاله أصيب الاتحاد الأوروبي بحال من الذعر. ومنذ تلك الواقعة بدأت مواقف «دول الضد» المعارضة للحرب على العراق تتفكك وأخذت كل دولة تعيد ترميم علاقاتها مع الولايات المتحدة بطرق ووسائل تناسب سمعتها الدولية ولا تجرح مشاعر «الوطنية» الأوروبية.
الآن وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر على «اختفاء» نظام صدام حسين يمكن ملاحظة أن الاتحاد الأوروبي تراجع عن معظم مواقفه المعترضة على السلوك الأميركي المتوحش في إدارة السياسة الدولية. ولاشك في أن تنوع مواقف الاتحاد قبل اندلاع الحرب المخترعة أسهم في تفكيك عناصر قوة الموقف السياسي الذي حاولت فرنسا وألمانيا وبلجيكا واليونان الالتزام به أساسا للافتراق عن الهيمنة الأميركية. إلا ان انقسام الاتحاد وتفرق قواه المركزية وتشتت مصالحه أعطى المزيد من المبررات لاندفاع الإدارة الأميركية في سياستها الهجومية جاعلا من الولايات المتحدة الطرف الأقوى في المعادلة الدولية.
السؤال: هل تخلت أوروبا عن دورها مكتفية بموقعها الاقتصادي ودورها في التجارة الدولية، كما هو حال اليابان؟
اليابان هي الدولة الثانية اقتصاديا في العالم بعد أميركا بينما دورها السياسي - الثقافي بات في المنظور الدولي مجرد ملحق تابع للسياسة الأميركية. فاليابان لا تملك الشيء الكثير من السياسة والثقافة لتقديمه إلى العالم فاضطرت إلى الانكفاء والاكتفاء بهذا الهامش الاقتصادي الذي يعتمد على تجارة السلع الاستهلاكية والحاجات المدنية وتوابعها.
الاتحاد الأوروبي مسألة مختلفة فهو الآن القوة الاقتصادية الأولى في العالم وأميركا هي الثانية. إلا أن قوة الاتحاد الاقتصادية لم تترجم حتى الآن إلى قوة سياسية. وحتى الآن فشلت كل المحاولات في تشكيل جبهة سياسية أوروبية موازية للقوة الأميركية. وحتى الآن أيضا أحبطت أو أجهضت كل محاولات فرنسا وألمانيا وما بينهما من تثبيت نواة متراصة لمواجهة طموح واشنطن نحو السيطرة الكلية والشمولية على السياسات الدولية.
نعود إلى السؤال: هل تخلت أوروبا عن طموحها السياسي - الثقافي وباتت تسير في الطريق الذي سلكته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية؟
الإجابة مختلفة. الاتحاد الأوروبي غير اليابان، فأوروبا على رغم توزع مشاربها ومواقعها وأديانها وألوانها وجنسياتها ولغاتها تشكل في مجموعها العام ثقافة عامة فيها الكثير من المشترك الذي يمكن تقديمه للعام نتاجا حضاريا لجهود مجموعات متنوعة من الثقافات والحضارات القديمة التي سادت البحر المتوسط لعشرات القرون. فهذا التاريخ تميز بالانفتاح والتواصل (إضافة إلى الحروب) بين القارات الثلاث الآسيوية والافريقية والأوروبية. ومن هذه القارات انطلقت العلوم والمعارف والأرقام والحروف والديانات لتنتشر وتمتد على مدار القارات الأخرى. فأوروبا ليست قارة منعزلة (كجزر اليابان) ولا تسودها ثقافة انعزالية تتمتع بخصائص محدودة التأثير إذا خرجت من نطاق بيئتها تلاشت واضمحلت وعجزت على المقاومة والحياة والاستمرار.
بهذا المعنى تملك أوروبا الشيء الكثير من الثقافة والسياسة لتعطيه وتقدمه إلى العالم كقوة نموذجية منافسة للولايات المتحدة. المشكلة في أوروبا هي أن كثرة معارفها وتنوع ثقافتها تفتقد إلى آلية سياسية كبرى (دولة واحدة) كالولايات المتحدة تستطيع دمج وإعادة إنتاج تلك الثقافات في سياق كوني مشترك. والمشكلة الثانية أن أوروبا لا تملك قوة عسكرية مستقلة للدفاع عن مصالحها التي تتعرض لضغوط أميركية مستمرة.
الدولة والقوة العسكرية وعدم الاتفاق على وحدة المصالح والأهداف نقاط ضعف الاتحاد الأوروبي وهي نقاط ليست بسيطة في حسابات الزمن والقدرة على التنافس مع الولايات الأميركية التي نجحت منذ أيام الرئيس ابراهام لينكولن في توحيد قوتها العسكرية والدستورية في دولة متحدة (فديرالية) واحدة.
على المقلب الآخر نجد الاتحاد الروسي وهو مثال ثالث يختلف عن اليابان وأوروبا. روسيا قوة عسكرية - سياسية على رغم ضعفها الاقتصادي. وأميركا تحسب لروسيا حسابات مختلفة في تشكيل المعادلة الدولية. وأحيانا تضع واشنطن رأي موسكو ومصالحها في طليعة العواصم التي يجب الانتباه إلى خصوصياتها وحساسياتها.
فروسيا دولة اتحادية واحدة على رغم مشكلاتها الداخلية وتعارضات المركز مع الأطراف والأقوام والحكومات الذاتية الموجودة في مناطقها الشرقية والجنوبية. فالدولة الاتحادية الواحدة رسمت لروسيا شخصية سياسية معززة بالقوة العسكرية إلا أن تلك الشخصية تنقصها آلية تنظيمية دستورية تعيد ترتيب الأولويات من دون انتقاص من تعدد الثقافات وتنوع الديانات (وتحديدا الإسلام). وهذه القوة تحتاجها أوروبا على رغم أن الأخيرة لم تدرك بعد كيفية الاستفادة منها في معادلة الصراع واحترام المصالح الدولية. كذلك روسيا تحتاج إلى أوروبا لتعزيز قوتها الاقتصادية التي إذا استمرت على ضعفها ستزيد من تفكك الاتحاد وتضعف دور الكرملين في توازن القوة الدولية.
العالم إذا أمام فوضى دولية. اليابان قوية اقتصاديا وضعيفة سياسيا، أوروبا الأقوى اقتصاديا ولا تملك قوة دفاعية لحماية مصالحها أمام هجوم الولايات المتحدة، وأميركا قوية اقتصاديا وتملك القوات المسلحة المعززة بايديولوجيا سياسية - ثقافية تحتقر ما عداها من نماذج وتجارب، وروسيا تملك القوات المسلحة من دون وضوح في أيديولوجيتها السياسة مضافا إليها ضعفها الاقتصادي الذي يأكل ثروتها واحتياطاتها المعدنية والطبيعية.
العالم إذا أمام فوضى دولية. فهناك أميركا التي دشنت القرن الجاري بسلسة «حروب دائمة» لا يعرف أين تنتهي وكيف... مقابل عالم متفاوت النمو وغير موحد في رؤيته. وغموض العالم وتأخر صعود قوة جديدة موازية يعني أن أميركا قادرة إلى الآن على استكمال مشروع السيطرة... إلا أن السيطرة لا تعني السكون حتى لو سكتت أوروبا وقعدت روسيا تتفرج. فالسيطرة من دون تنافس دولي منظم ومرتب قد يدفع العالم إلى انفلات سياسي غير مراقب يؤدي إلى أي نوع من الفوضى الدولية. وهنا المشكلة، فما يحصل في العراق من فوضى، وقبله في أفغانستان، والآن في فلسطين، وأيضا في الشيشان يؤكد أن التوازن الدولي ضرورة سياسية لا للاتفاق على توزيع المصالح فقط بل للتفاهم على وجود مصلحة مشتركة لوقف الحروب ومنع انتشار الفوضى الدولية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 286 - الأربعاء 18 يونيو 2003م الموافق 17 ربيع الثاني 1424هـ