العدد 284 - الإثنين 16 يونيو 2003م الموافق 15 ربيع الثاني 1424هـ

سموم «عقرب الصحراء»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أعلنت القوات الأميركية العراق بدء عملية «عقرب الصحراء» لملاحقة ما تدعيه فلول النظام السابق. وجاء هذا الاجراء ردا على المواجهات التي تحصل يوميا في بغداد ومدن ومناطق وسط العراق.

الحاكم الاداري (المندوب السامي) الأميركي بول بريمر تذرع بوجود بقايا «النظام البعثي» للاعلان عن بدء العملية العسكرية محاولا الايحاء بأن الشعب العراقي في غالبيته العظمى مع الاحتلال باستثناء قلة قليلة من الناس. ولم يتردد المسئولون الامنيون من اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي لتبرير سياسة القبضة الحديدية التي ظهرت أخيرا من خلال الهجمات العشوائية التي ذهب ضحيتها عشرات من المدنيين والأبرياء في عدد من مناطق بغداد وضواحيها بذريعة ان هؤلاء من أنصار «الرئيس السابق».

ولا شك في أن التذرع بوجود بقايا «... النظام البعثي» لتشديد القبضة الأمنية على الشعب في مختلف فئاته وجهاته ومناطقه هي وسيلة سياسية لارهاب مختلف المعارضات العراقية بمن فيها تلك التي كانت تعارض أجهزة دولة صدام حسين. فالمعركة تتم تحت شعار ملاحقة «النظام السابق» الا ان هدفها الحقيقي منع قوى المعارضة النشيطة والحية من النمو والتبلور في هيئات وجمعيات سياسية ومدنية مستقلة عن هيمنة الاحتلال. فالنظام السابق لم يبق حتى تستطيع من المقاومة خلاله مواجهة الاحتلال... واذا وجدت الفلول فإن فاعليتها شبه معدومة لأن حظوظها في النشاط السياسي غير قابلة للاستمرار في ظل مناخ لا يسمح بعودة من يتحمل مسئولية الانهيار العام والكوارث التي لحقت بالبلاد. فمن يفشل في الدفاع عن الوطن حين كان يتقلد السلطة لا يستطيع الدفاع عنه إذا انقلبت عليه كل الظروف والأوضاع.

الاحتلال يكذب حين ينسب كل أعمال المقاومة المسلحة والمواجهات السياسية اليومية لاتباع «حزب البعث» وفلول «النظام السابق». فهذه كذبة تعادل كذبة وجود «أسلحة دمار شامل» والاحتجاج بها لإعلان الحرب واحتلال دولة.

النظام السابق انتهى والمشكلة الآن مع الاحتلال. والمحاولات التي يلجأ اليها الاحتلال لإعادة أحياء النظام السابق وتحسين سمعته وتعويمه مجددا باسم «المقاومة» يرجح ان تفضح قريبا وتكشف أمام العراقيين. فالمقاومة عراقية وليست صدّامية والدليل ان المواجهات السلمية والمظاهرات التي تندلع يوميا وتنتقل من منطقة الى أخرى ومن مدينة إلى أخرى (آخرها مظاهرة ضخمة في البصرة) تشير إلى أن نمو حركة احتجاج سياسية عامة تؤكد وجود مشكلة حقيقية بين الاحتلال وأهل العراق.

المواجهات اصبحت يومية وهي في ازدياد وعلى وتيرة متصاعدة وهذا ربما ما يفسر اسراع الحاكم الأميركي إلى اعلان البدء في عملية «عقرب الصحراء». فالعملية يرجح ان تكون شاملة ودموية وتهدف إلى اقتلاع كل بؤر التوتر أو مناطق الممانعة التي تصدر عنها حركات احتجاج أو مقاومة شعبية. لذلك لجأ الاحتلال الأميركي إلى تضخيم صورة صدام واصدار بيانات باسمه وتوزيعها ونشرها للايحاء بأن هناك جهات منظمة تقف وراء تلك العمليات وهي جهات تابعة للنظام السابق الأمر الذي يعطي شرعية للقوات الأميركية بالقتل المجاني والعشوائي بذريعة ان هذه المعركة هي جزء من حرب لم يعلن حتى الآن عن نهايتها.

المصادر العراقية على اختلاف ألوانها واطيافها تؤكد ان تلك البيانات مخترعة ويرجح ان هناك أجهزة مخابراتية تقف وراء اصدارها لتشويه سمعة المقاومة بإعادة ربطها بفلول نظام كريه ومكروه من مختلف فئات الشعب. وتشير تلك المصادر إلى أن المواجهات اليومية التي تقع في مناطق مختلفة عفوية في معظمها ويغلب عليها الطابع المدني. وبعض تلك الاحتجاجات هي أحيانا تأتي كردة فعل على تأخير الاجراءات الإدارية وتعطيل الحياة المدنية. فاهمال الجوانب المعيشية للناس مضافا اليها شحة في المياه وانقطاع الكهرباء والاتصالات واختفاء الأدوية والفوضى في المؤسسات العامة تزيد من النقمة وترفع من وتيرة الاحتجاج. فالمشكلة لم تعد مع دولة بائدة بل مع احتلال قائم. والناس عادة تطالب من يتحمل مسئولية الأمن والسياسة والاحتلال هو الجهة الوحيدة الموجودة في العراق التي يمكن الحديث معها أو مطالبتها.

المقاومة اذا مركّبة فهي مزيج من الاحتجاج السياسي على الاحتلال والنقمة على الفوضى وصعوبات الحياة اليومية والكراهية للأجنبي الذي اسقط دولة واغتصب الأرض ولا يريد ان يعطي فرصة لأبناء البلد بإعادة بناء دولتهم وفق الصيغة التي يطمحون اليها. فالمقاومة اذا في جوهرها عراقية وليست صدامية أو بعثية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية حتى لو ظهرت كذلك أو حاول الاحتلال اظهارها بهذا المشهد. فالمشكلة عامة والمقاومة مشتركة تختلط فيها المناطق والطوائف والمذاهب وتتداخل فيها الخيوط السياسية وتتخذ اشكالا متعددة من الوسائل والادوات منها المدني ومنها العسكري ومنها العفوي ومنها المنظم... إلا انها على مجموعها ترسم حدود تماس بين الناس والاحتلال وهذه مسألة يرجح ان تتسع وتستمر حتى يخرج الاحتلال من العراق.

التأكيد على عراقية المقاومة مسألة حيوية ومهمة لانها تنزع من الاحتلال اخطر اسلحته فتكا وهو السلاح الطائفي - المذهبي - الجهوي. فعراقية المقاومة تحد من امكانات بقاء الاحتلال وتثبيت نفسه اهليا بعد ان يكون أنجز تثبيت قواعده العسكرية على حدود تركيا وإيران وسورية لاستكمال مهماته الاستراتيجية الكبرى في منطقة «الشرق الأوسط». وحتى ينجح الاحتلال في تثبيت قواعده يلجأ الآن إلى تثبيت قواعده السياسية من خلال محاولاته رسم خطوط تماس أهلية متوترة تفصل بين المناطق العراقية تمهيدا لاتخاذ اجراءات ادارية تعيد تركيب الدولة العراقية وفق صيغ كونفيدرالية (انفصالية) تفرق بين ابناء الشعب الواحد وتوزع بلاد الرافدين الى دويلات طوائف شمالية وجنوبية ووسطى.

عملية «عقرب الصحراء» بدأت عسكريا وأخطر لسعات العقرب تلك السموم السياسية التي يحاول الاحتلال اثارتها لزرع البلبلة والفوضى وتشتيت الانتباه وتفريق الجمع، تمهيدا لاعادة توزيعه على مناطق تتنازع النفوذ ويكون الاحتلال هو القوة الضابطة لها والمشرفة عليها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 284 - الإثنين 16 يونيو 2003م الموافق 15 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً