لفتني أثناء تقديم طلبة الجامعة امتحاناتهم النهائية (التي تنتهي هذا الأسبوع) أن البعض منهم يشكو من طريقة اعداد ووضع الامتحانات، فقد تضمنت أسئلة «مطاطة» قابلة للتأويل والتحوير وتسبح في فضاء شاسع مطرد، إذ يرون أن تلك الأساليب لا تليق بمستوى الطالب الجامعي وأجحفت بحقهم كثيرا بعد جهد وتعب في المذاكرة وسهر ليال طوال.
وباطلاعي على أحد نماذج الامتحانات التي قدمها لي طلبة في كلية الآداب، تبين لي أن ادعاءاتهم لم تبن من فراغ، وأن المنهج الذي اعتمد به وضع بعض الامتحانات لا يخلو من الثغرات والمرونة وفي بعض الأحيان يفتقد إلى الرصانة العلمية، والمصيبة الكبرى أنه يحول الطالب إلى آلة حفظ تفرغ المعلومات، وتنتزع منه صفة طالب العلم. سيقول لنا أهل العلم من الكادر الأكاديمي: «هذا شأننا واجتهادنا، وليس لكم التدخل في أمورنا». ونحن نحترم ذلك، ولكن هؤلاء الطلبة قابلوا أسئلة على شاكلة ما ردده الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش غداة احتلال العراق (يا سيدي... إذا لم تكن معي، فأنت ضدي)! والمقصود بها هنا: عليك أيها الطالب الفذ أن تجاوب كما يمليه هوى الأستاذ وعلى طريقته وثقافته ورؤيته العلمية، وكما تعلمته نصا وحرفا من الكتاب المقرر، وإلا فإنك ستخسر درجة تلو درجة، وتكون طالبا غبيا.
احدى هذه الأسئلة «العبقرية» في أحد امتحانات كلية الآداب وهو ضمن سؤال (ضع علامة صح أو خطأ) يقول: «يفضل أن يكون لكل موضوع في المجلة موسيقاه الخاص». ويعنى بالمجلة في السؤال المجلة الاعلامية في الاذاعة أو التلفزيون. وإذا قال الطالب: «الاجابة صحيحة»، سيقول الأستاذ: «الاجابة خاطئة؛ لأنه (لا يفضل) وانما (يجب)». وإذا قال الطالب: «الاجابة خاطئة»، سيقول الأستاذ: «الاجابة صحيحة؛ لأن درجة (يفضل) هي المستوى الذي يقدر عنده نسبية هذا السؤال». اللهم ارحم وعاون الطلبة!
وكذلك قدم لي عدد من طلبة الهندسة الكيميائية نموذجا لأسئلة امتحان، رأوا أنه غير منصف لهم من حيث وضع أسئلة غير دقيقة تشتمل على أكثر من اجابة، وتزمت مدرسهم من اعتبار الاجابات التي تتوافق مع طريقته في الحل فقط واعتبار الإجابات الأخرى غير علمية وتستحق درجة الصفر.
درجة الصفر سلسيوس تعني درجة تجمد الماء، والطلبة المساكين ستتجمد عقولهم من هذه الطريقة في التعامل والتقييم.
هذه الأنواع من الأسئلة تفضح مدى الأساليب المتدنية التي مازال بعض الأستاذة يستخدمها، فهم ينتهجون طرق تقييمية تعود إلى الستينات من القرن الماضي، وتخلفوا عن ركوب موجة التحديث والتجديد التي طالت العلوم في العصر الحديث. إن هذا النوع من الأسئلة الذي يتأرجح بين قطبين منفردين، القطب الأول إما أن تفكر وتجاوب بأسلوب الأستاذ فتنجح أو تنتهج القطب الآخر نتيجة اجتهادك فتخسر خسارة مبينة. إنما يروج بطريقة غير مباشرة إلى أن يتخرج الطلبة وهم كتل من الحفظ الأعمى، ويخفي ملكة الابداع والانتاج الفكري والثقافي لدى الطلبة، ويجعلهم كتلا صماء همها النجاح والتخرج فقط، وهو ما ينافي الأهداف التعليمية والجامعية في تخريج أفواج تطلب العلم، وتجتهد للتفوق، ولا ترى الامتحان غاية وانما مرحلة ووسيلة تعقبها مراحل أخرى في سلم الحياة.
وعندما تقع هذه الحوادث (أسئلة متأرجحة لا تعرف يمينها من يسارها) في امتحان نهائي في جامعة عريقة، تفتح بابا آخر لا يقل أهمية في مناهجنا التعليمية وطرق التدريس والتربية، وهو كيفية تقييم الطالب وأدائه طيلة العام الدراسي، وحثه على الاجتهاد وحب العلم، وليس جلوس الأستاذ أمام الطلبة وانشاده أغنية يكررها الطلبة، على مر السنين.
ونتيجة مرئيات ضيقة يسير وفقها البعض من كادرنا الأكاديمي، تتشوه الحقائق وتتزيف ثم لا تعدو أن تكون ركاما ينبت عليه الغبار ويحوله إلى مستنقع. لابد من وجود الرقابة المتجددة على هؤلاء الذين يزرعون، عن قصد أو غير قصد، بذرة سيئة في وسطنا الجامعي ويشجعون الطلبة على اذكاء ذاكرة الحفظ على حساب اجتهادهم واشغالهم نعمة العقل والفكر. يجب أن يحاسبوا من قبل رئيس القسم أو العميد أو دوائر القياس والتقويم.
وندعو هنا إلى تفعيل مبدأ القياس والتقويم الذي تنتهجه الجامعات التي تعي أهميته في الحياة الجامعية على صعيد تطوير الكادر الأكاديمي أو عمل تقييم عام لمستوى الطلبة. نريد التعرف على المقاييس التي تتبعها جامعاتنا ومعاهدنا كي لا تصيبنا لوثة كما تصيبنا اليوم مع بعض نماذج الامتحانات التي كشفت القليل عما هو مستور.
وأحد طلبة السياحة في جامعة البحرين تذمر وهو خارج من الامتحان، وجاء يشكوني أن أستاذهم وضع سؤالا يتعلق بمحاضرة لأحد المتحدثين من خارج الجامعة تحدث عن السياحة في الفنادق، وقد جاء الأستاذ بسؤال عن هذه المحاضرة الخارجية دون أن يعلم الطلبة أنها من ضمن الامتحان!
ويعكس ذلك وجود حاجة إلى أن يجلس الطلبة مع أساتذتهم، بين الحين والآخر، ويحاورونهم ويستمع الطرفان إلى احتياجات كل طرف، بحيث ينصت الأستاذ بسعة صدر إلى الطلبة، ويتقبل الطلبة انتقادات أستاذهم.
ونحن لا نعمم ونلوم جميع الأساتذة، فيوجد كادر أكاديمي في البحرين نفتخر به، ومثال يحتذى به في جامعات دول الخليج والجامعات العربية، وما يبدر من بعض الأساتذة في انتهاجهم بعض الأساليب الخارجة عن النسق الأكاديمي الرصين لا يمكن اتخاذه قاعدة عامة، ولا يمكن تعميمه على الجميع.
نأمل أن نتجاوز اشكالية (مع أو ضد) في وسطنا الجامعي
العدد 283 - الأحد 15 يونيو 2003م الموافق 14 ربيع الثاني 1424هـ