العدد 283 - الأحد 15 يونيو 2003م الموافق 14 ربيع الثاني 1424هـ

«هبات» إيرانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انتهت «الهبة» الطالبية في إيران، واحتمال عودتها مسألة واردة. فهي حصلت سابقا وتكررت وكانت «الهبة» الأخيرة في 4 يوليو/ تموز 1999 التي أثارت الكثير من اللغط عن التغيير والاصلاحات في بلد شهد ثورة كبرى لم تعرفها أية دولة في النصف الثاني من القرن الماضي.

«الهبات» في إيران أصبحت متكررة دوريا وسنويا، إلا أنها حتى الآن لاتزال ركائزها الاجتماعية تقتصر على الطلبة وشريحة من المثقفين وتتركز مطالبها على نقطتين: الأولى السلوك الاجتماعي، والثانية الحريات الخاصة.

المشكلة اذا ليست كبيرة وهي لا تطاول الشأن العام أو الحريات العامة بقدر ما هي تطرق على باب صغير لا يتعدى سوى المطالبة ببعض الانفتاح الاجتماعي - الثقافي على سلوكيات تعتبرها مبادىء الثورة مجرد انحرافات ناشئة عن نمو طفيليات استهلاكية تعيش دائما على هامش الاقتصاد تأخذ منه ولا تعطيه وتطالب كثيرا وتعمل قليلا.

ربما يكون هذا التحليل فيه شيء من الصحة بدليل ان «الهبات» حتى الآن لاتزال محدودة وتقتصر على فئات غير منتجة أو فئات تستعد مستقبلا لدخول سوق العمل.

وما دامت تلك «الهبات» محدودة ومؤقتة فان سلوك الدولة العام لايزال حتى الآن في حدود تفهم تلك الظاهرات، الأمر الذي فرض عليها النظر اليها والتفرج على تفاعلاتها والتدخل في ضبطها حين تخرج إلى الشارع وتضر بالمصلحة المشتركة.

الا أن موقف الدولة العقلاني لا يبرر عدم اكتراثها بالمشكلة والاكتفاء بالقول انها نتاج تحريك أجهزة خارجية وتحريض محطات تلفزة واذاعات أميركية موجهة خصيصا ضد إيران لاثارة البلبلة والفوضى تمهيدا لفرض شروط أجنبية عليها تكبل اقتصادها وبرامجها التنموية.

الدور الأجنبي موجود ولا يمكن التقليل من خطورته الا أن الأخطر من ذلك هو قعود الدولة واستمرار إهمالها لنمو ظاهرة «الهبات» الطالبية. فهذه الظاهرة هي أولا طبيعية وصحية، وتكون عادة نتاج النمو والتقدم والتطور. وهي ثانيا ضرورية لأن عدم حصولها يعني ان هناك مشكلة في المجتمع وصلته بالدولة، فالمجتمعات التي لا تتعرض لخضات وهبات هي تلك التي تكون استسلمت وفقدت قابليتها للحياة والتطور.

هذا الجانب من القراءة لا يكفي، القراءة صحيحة لكنها تحتاج إلى مزيد من الدقة لالتقاط الدلالات الاجتماعية - السياسية لحصول مثل هذه التظاهرات وتكرارها دوريا وسنويا. وحتى الآن كل ما حصل من تحركات طالبية هي في مجملها ليست ذات قيمة سياسية لأنها لا تطاول أسس الدولة ولم تمس جوهر مبادىء الثورة. ويمكن القول ان فوائد تلك الهبات أكثر من مضارها حتى الآن، لأنها في النهاية هي جرس تنبيه للنظام وهزة لابد منها وهي ضرورية للدولة لوعي بعض المتطلبات التي تكون غافلة عنها. فالدولة في النهاية تشبه جسم الإنسان اذ ارتفاع الحرارة ينبه المريض إلى وجود مشكلة تجب معالجتها قبل استفحالها.

«الهبات» الطالبية وتأييد شريحة من المثقفين الإيرانيين لها تشبه الحرارة في جسم الإنسان فحين ترتفع أو تهبط تنبه المريض وتدفعه إلى الذهاب إلى الطبيب للعناية.

وإهمال درجات الحرارة (ارتفاعا وهبوطا) يزيد من المرض ويؤدي إلى نتائج غير محسوبة. لذلك وعلى القياس نفسه يجب على الدولة في إيران ان تنتبه لاستيعاب تلك الهبات ومحاولة قراءة دوافعها والعمل على احتواء عناصرها الايجابية وعدم الاكتفاء بالقول: انها نتاج ترتيبات خارجية وصناعة أميركية.

هناك تفسيرات كثيرة لما يحصل في إيران بدءا من أن عصر الثورة انتهى وبدأ عصر الدولة وانتهاء بان عصر الدولة الإسلامية بات على قاب قوسين من الغياب وان الجيل الجديد في إيران هو جيل الولايات المتحدة والموضة الأميركية. هذه التفسيرات كلها غير دقيقة فلا الثورة انتهت ولا الدولة تقلص دورها ولا المجتمع ترك الإسلام بحثا عن فرص ضائعة يجدها في الاحلام (الافلام) الأميركية.

كل هذه الأمور ليست دقيقة حتى لو أصابت أجزاء من الواقع. كذلك الأمر ليس صحيحا القول ان «الهبات» تحركها جهات أجنبية بالمال والاعلام والتحريض ضد رجال الدين وتعريض الاسلام للكثير من الاسئلة المثيرة للعجب والاستغراب. فهذه المسائل موجودة وستبقى الدول الضعيفة (المشاغبة على الاستراتيجية الأميركية) عرضة للتشهير والتقويض الا ان اختصار الأزمة إلى سلسلة اتهامات تربط التحركات و«الهبات» بالضغوط الأميركية وتحديدا بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق لا يفسر كل الأمور ولا يجيب عن الأسئلة الحقيقية التي بدأت تواجه إيران من الداخل بعد صمود استمر قرابة 25 عاما من الحصار والعزلة.

القوى الخارجية موجودة ودورها معروف الا انها لا تستطيع ان تخترق الحواجز الأهلية الا بحدود معينة حتى لو أثارت واشنطن القلاقل والاضطراب على حدود إيران من الجانبين العراقي والأفغاني. فالمسألة الداخلية تبقى أقوى من ان تهزها شبكات خارجية اذاعية أو تمويلية. المشكلة أساسا داخلية ويجب على الدولة ان تقرأ عناوينها من شبكة العلاقات الأهلية ومستوى الصلة الذي بلغته الدولة مع المجتمع. فالهبات المتكررة مثلا قد تكون نتاج نمو قوى حديثة في المجتمع تطمح إلى إقامة نوع من العلاقات السياسية مع الدولة أكثر تطورا مما هو حاصل الآن. فالهبات لا تعني بالضرورة محاولة انفكاك عن الدولة بل ربما تهدف الى تطوير العلاقات معها إلى مزيد من الانفتاح وبالتالي المزيد من الاندماج بها وبمشروعها وخططها التنموية. فالنزوع نحو الاضراب أو الانتفاضة أو الهبة ليس بالضرورة محاولة انقلاب على الدولة بقدر ما يعني حركة احتجاجية غاضبة تطلب من الدولة مشاركتها في تحمل المسئوليات والاسهام في تطوير البلد وتحديثه. فالمجتمع كالدولة ينمو باستمرار ويفكر ويخطط كذلك لمستقبله. وحين ينمو المجتمع يضغط على الدولة ليدفعها ايضا نحو المزيد من النمو. فالمجتمع حين يتطور على الدولة ان تتطور واذا تجمّدت في مكانها يندفع المجتمع نحو الانتفاض ويهبّ حين يجد الفرصة مناسبة.

ما يحصل الآن في إيران من «هبات» ليس بالضرورة يعكس حالات من البؤس الاجتماعي. فالأزمات السياسية تكون احيانا ناتجة عن التقدم الاجتماعي وتحسن توزيع الثروة الوطنية ونمو علاقات جديدة كسرت التفاوت بين المدن والأرياف والمركز والاطراف وأفسحت المجال لفئات اجتماعية للتعلم والتحصيل والطموح والتفكير في مستقبل افضل.

التخلف الاجتماعي لا يحدث ثورة سياسية (هبات طالبية مثلا) وانما يورث الدولة انقسامات اجتماعية - أهلية. بينما التقدم الاجتماعي هو الذي يرفع الانقسامات الاهلية إلى مستواها السلمي ويعبر عن نفسه بأساليب هي أقرب إلى الحراك السياسي لا التفكك الأهلي. وما يحصل الآن في إيران هو أقرب الى الحراك السياسي الناجم عن التقدم الاجتماعي الذي على الدولة ان تلحظ إرهاصاته الدستورية فتتحرك نحو احتواء عناصره الايجابية واستيعابها في قنوات خططها ومشاريعها. فنمو المجتمع اذا لم ترافقه جملة تطورات دستورية - سياسية سيؤدي إلى تعارض مصالح الدولة مع مستقبل الأهل في قطاعات كثيرة تبدأ بالطلبة وشريحة من المثقفين ليمتد النمو وينتهي الى أزمة كبيرة في قطاعات أخرى (منتجة) في المجتمع. وهنا تنتقل المشكلة إلى درجة أعلى، فبعد ان تكون هامشية واستهلاكية (سلوكيات اجتماعية وحريات خاصة) تتحول إلى أزمة عميقة تطاول المفاهيم والقيم. ويرجح ان هذا لا تريده الدولة في إيران

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 283 - الأحد 15 يونيو 2003م الموافق 14 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً