العدد 283 - الأحد 15 يونيو 2003م الموافق 14 ربيع الثاني 1424هـ

إدوارد سعيد... والهنود... وعين عذاري

الوسط - حسام أبو أصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

لا يمكن النظر إلى إدوارد سعيد على أنه ذلك المثقف الذي أنجز مجموعة من الأطروحات ورسخ تقاليد بحثية معينة، وأضاف باجتهاداته شيئا ملموسا، أو أسهم بصورة معينة في إعادة قراءة بعض الأفكار التي كانت تأخذ مأخذ الجد على أنها الحقيقة الدامغة التي لا تقبل الجدال. إدوارد سعيد ليس كل ما تقدم فحسب، بل إنه يمثل بشخصه وبمواهبه ووجوهه المختلفة (لا المتضاربة) كولاجا من الألوان المتداخلة التي لا يكتمل العمل الفني الإنساني دونها. يقول سعيد: «تجاوزت اهتماماتي العالم العربي، وأشعر أن الأمر حررني أيضا. ومع ذلك فإنني مخلوق الدرب الذي سرت عليه، مخلوق تاريخي، واللغات والثقافات التي اشتققت نفسي منها. ولكنها لم تعد بالنسبة إلى العلة الرئيسية لوجودي. إنها جزء من هذه الصورة الشاسعة التي أسميتها المنفى، الذي بات عندي حقل كريم، بعض الشيء في منح الفرصة».

وهو العمل الذي جعله متميزا بين مجاليه، ممن أضفوا بصمات بل ولمسات خاصة. وليست علاقة القوة بالمعرفة هي الحاسمة في هذا الباب على رغم المؤلفات التي لاقت تداولا عالميا على أوسع الأصعدة، وترجمت إلى معظم اللغات الأساسية، بل إن المشروع الإنساني بمجمله انطلاقا من مواقف أخلاقية مشهودة لا تعرف المساومة ولا يقف في طريقها أي تهديد أو وعيد - أو حتى التهديد بالتصفية الجسدية كما صرح في غير مقام - وفي الوقت نفسه ليس الرجل من أصحاب الآراء المثالية المتعالية التي لا تقبل بالحلول المتاحة لتصفية المشكلات أو لحلها، ولكن في الوقت نفسه فإن دروب المناورة - التي يحسن التعامل معها - ليس لها مكان في عمله على الإطلاق، فاللغة الراقية العذبة ذات الإيقاع المتماوج التي يستخدمها تشير باستمرار إلى روح تصادمية وعقل مشتعل غير مهادن.

ولهذه الحزمة من الأسباب لا أعتقد أن الذين نالوا سخطا وغضبا كثر في هذا الزمان بهذه الطريقة من الشراسة المنظمة في سبيل التشكيك في المواقف بل وما الحملة التي شنت عليه قبل سنوات قليلة التي تشكك في هويته المقدسية العربية، إلا من ضمن ما يتنظم في السياق نفسه، وهي تهمة هدأت وتلاشت الآن، وهي واحدة عموما في سياق قائمة التهم الموجهة إليه والتي لم تنقطع أبدا، والتي تروم في النهاية فعل التدمير، لكنه بدا أقوى من ذلك بكثير.

عود على بدء، في الاستشراق الصادر نهاية السبعينات الماضية كان بمثابة الفاتحة لهجومات كاسحة من الشرق والغرب، ومن كل حدب وصوب، وكانت ردة الفعل إيجابية في كل الأحوال باستثناء من كانت قراءاتهم كنوع من رد الصاع بمثله لضرر أحاق بمؤسساتهم أو بمفهوماتهم القارة الهانئة. والمثير في هذا العمل / الكتاب أن دلالة المفردة «الاستشرا» قد تغيرت رأسا على عقب، وأصبحت الكلمة ذات دلالات متمركزة حول جدلية القوة والمعرفة، وتمثيل الآخر، وتشيئه ونمذجته وتأطيره، وإحاطته تكريسا بصور مخيالية - وسعيد يلهج بالشكوى دائما من الموقف العربي من هذا الكتاب تحديدا ويرى الأمر محزنا لا فيما يختص بنقد الكتاب فحسب، ولكن على مستوى استثمار الرؤية المنهجية والأفكار... إذ يقول في أحد اللقاءات: «في الوقت الذي أسهم فيه كتاب الاستشراق في تطوير القراءات، وفي إعادة رد الاعتبار لكثير من القضايا في كثير من أقطار العالم الثالث لم يكن التعاطي العربي مع الكتاب إلا في الحدود الدنيا منه. وقد كان ذلك إما بالتصفيق الحار، أو بالاحتجاج المبالغ فيه من دون أية محاولة لاستثمار الممكنات التي وفرها».

ولم يكن إدوارد وديع سعيد أقل أهمية في عمله النقدي، فالأفكار التي جاءت في أطروحته للدكتوراة عن جوزيف كونراد، أو فيما يتعلق بمفهومه الخاص عن سفر النظرية وهجرتها، أو ما احتوته كتبه ذات الطابع السياسي من أفكار عنيفة لا تقبل المهادنة، ففي الوقت الذي كان يدعو فيه للسلام كان الجميع معرضا عنه وعن أفكاره، لكن عندما تحقق ما يشبه هذا السلام ولا يشبهه وجد سعيد نفسه حائرا في مفترق الطرق ضائعا وسط تخاذل عام... صارخا بأعلى صوته ضرورة وقف هذه المسرحية المونودرامية ذات الصوت الواحد، واللاعب الواحد والممثل الوحيد، والجمهور المتثائب الكسول... وهو يعلم أن المجهودات التي ترهق جسده المريض لا طائل منها، لكن وجهة نظره هذه لا تنفصل عن تصوره ومفهومه للمثقف ذلك الكائن الذي يحتوي العالم ولا يحتويه ولا يستمله ولا يغلق فمه.

هذا الخليط علاوة على تثبيت أطروحته الأساسية واهتماماته الموسيقية تأليفا وعزفا، وتلك عنده ممارسة محببة وجزء لا يتجزأ من التكوين العام المثير لشخصه وثقافته، يعززه سعيد بإصدار خرج للنور مطلع العقد الماضي يؤكد فيه ما جاء في الاستشراق ولكن من منظور أكثر شمولية، ففي الوقت الذي كان فيه الخطاب في الاستشراق موجها بصورة أساسية لإدانة الذين جعلوا من أنفسهم أوصياء على الآخرين، وأحرارا في رسم تصورات خاطئة عن الشعوب والثقافات الأخرى - والرسالة هنا موجهة للحالة العربية تحديدا - فإن الكتاب الآخر «الثقافة والإمبريالية» يتميز بقراءات تقود للهدف نفسه عن طريق قراءة أعمال أدبية وموسيقية كتبت خلال الحقبة الاستعمارية، وأثناء السيطرة لأباء ومؤلفين موسيقيين تم تكريسهم بوصفهم فوق الشبهات أو خارج إطار التأثير المباشر في علاقة المستعمر بالمستعمر... وحلل سعيد هذه العلاقة - وهي علاقة بالغة التعقيد - ليكشف انتفاء البراءة، وتجذر هذه العلاقة.

نموذج سعيد يتطابق مع طرحه الذي أدلى به في صور المثقف... إن عالمه المتشعب المتشابك الذي تختلط فيه الهويات، وتتشابك فيه اللغات، وتتعانق وتتداخل فيه الثقافات لهو عالم زاخر بتفاصيل كثيرة قلقة. وصور المثقف الذي يلتزم مكتبته وكتبه ويبقى حبيس أوراقه يختلف تماما مع هذا النموذج... فهو لا ينتمي لهذه الطائفة التي تغلق الأبواب على نفسها، بل إن حضوره في المناقشات العامة والندوات والمحاضرات واللقاءات والبرامج الإذاعية والمتلفزة وكتابته للمقالات الصحافية أهله ومكنه من إيصال أفكاره إلى أكبر قدر ممكن من الجماهير، هذا بالإضافة لمتانة الطرح على مستوى المضامين والمنهج.

إدوارد سعيد كعين عذاري عندنا باذخ في ري الآخرين... لتقاعسنا عن الاجتهاد للوصول إلى منابعه على رغم توافرها... وحضوره قوي في كل المناهج وطرق القراءة الحديثة والمناهج البحثية سواء في نظريات ما بعد الاستعمار، أو في النقد الثقافي والتحليل الثقافي... ولقد أفاد الهنود منه بوجه خاص بشكل يثير الإعجاب كحال متميزة، على كيفية إعادة القراءة واستثمار الأدوات والانطلاق بها... إن المشهد النقدي الهندي يدين لسعيد بالكثير... وهو ما نأمل أن نطرحه قريبا في إطار تعريفي عام... على العكس من الوضع عندنا الذي لم يبرح مواطن الاحتفاء لا الاستفادة، أو النقد القاسي بدعوى التحريرية وانتفاء عقدة الآخر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً