رفض ناطق باسم الحكومة الاسرائيلية دعوة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بارسال قوات فصل دولية إلى الاراضي الفلسطينية المحتلة. عنان قال في حديث إلى صحيفة «ها آرتس» الاسرائيلية إن انفلات الوضع الأمني في فلسطين بحاجة إلى مراقبة دولية لتحديد الطرف الذي يخرق الهدنة وفصل الاطراف المتقاتلة.
الناطق الاسرائيلي ردّ الدعوة مؤكدا مسئولية الجانب الفلسطيني في تعطيل المفاوضات واللجوء إلى العنف لمنع قيام استقرار يسمح بتنفيذ الاتفاقات الموقعة وفق القرارات الدولية.
الطرف الاسرائيلي لا يقول الحقيقة. وهذه عادة وليست مسألة جديدة، فاذا كان الجانب الفلسطيني يتحمل مسئولية العنف والتدهور الأمني وغير ذلك من أعمال تمنع تنفيذ الاتفاقات، كما تقول الرواية الاسرائيلية، فلماذا لا تبادر تل ابيب بالانسحاب من الأراضي التي وعدت بالانسحاب منها لإحراج الطرف الفلسطيني وكشفه أمام العالم؟. الكذب الاسرائيلي ليس جديدا. الجديد هو دعوة الأمين العام للأمم المتحدة وهي دعوة متأخرة لكنها مهمة لأنها أساسا تلبي مطلبا من مطالب الجانب الفلسطيني الذي كرّر مرارا تلك الدعوة ورفعها اكثر من مرة الى مجلس الأمن ووافقت عليها الدول الكبرى وأسقطت بحق النقض (الفيتو) الاميركي.
استخدمت الولايات المتحدة «الفيتو» أكثر من مرة لإفشال الطلب الفلسطيني بإرسال قوات دولية للحماية والفصل بين الجانبين. وكانت واشنطن تستخدم حق النقض دائما بناء على نصائح اسرائيلية وبطلب من تل ابيب. مصلحة «اسرائيل» ألا تأتي قوات دولية للفصل بين الطرفين، كذلك تفضل ألا ترسل الأمم المتحدة قوات مراقبة لتحديد الطرف المسئول عن خرق «وقف النار». فالمصلحة الاسرائيلية تقضي أن يستمر الحال على ما هو عليه فيعطي تل ابيب ذريعة لعدم الانسحاب والبقاء في المناطق المحتلة التي يجب ان تعطى للسلطة الفلسطينية كما نصت الاتفاقات الموقعة بين الطرفين منذ أكثر من عشر سنوات. ارسال «قوات دولية» يعني ضمنا فشل الاحتلال لأنه في النهاية يقضي بالانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة ووضع قوات مراقبة على الحدود لحماية الشعب الفلسطيني من العدوان.
«اسرائيل» منعت القرار من خلال استخدام علاقاتها المميزة مع الولايات المتحدة. والسؤال: ما مصلحة واشنطن في استخدام حق النقض لمنع ارسال قوات دولية للفصل بين الطرفين؟. هناك مصلحة اميركية. فالولايات المتحدة ترى في ارسال قوات دولية تابعة مباشرة إلى الأمم المتحدة خطوة دبلوماسية تسهم في اخراج الأزمة من رقابتها إلى هيئة دولية محايدة الأمر الذي يعني عودة «الأزمة» إلى اطارها الدولي بعد ان انفردت واشنطن بدائرة «الشرق الاوسط» منذ فترة السبعينات. فالتدويل برأي الادارة الاميركية يعطي جملة حقوق متساوية نسبيا بين الدول الكبرى ويحدُّ من حرية تصرف واشنطن ويعطل عليها امكانات عقد تسوية تشرف وحدها على صوغ بنودها. فالتدويل في وجه من وجوهه يعني نزع صفة الأفضلية للدور الاميركي وتقليل حجم ذاك الدور وعودة الدول الكبرى (فرنسا، روسيا، والصين) إلى «الشرق الاوسط» للمشاركة والمساهمة في صنع مستقبله.
الولايات المتحدة تريد «الشرق الاوسط» بعيدا عن اللعبة الدولية ولا تريد للأمم المتحدة أن تلعب في إطار صلاحياتها ذاك الدور الذي تطالب به الدول العربية. فعزل «الشرق الأوسط» عن الرقابة الدولية يعني عزل القضية الفلسطينية وترك مصيرها لمزاج واشنطن ومصالحها... وهي مصالح تخضع في كثير من الحالات إلى مزاج تل ابيب وعلاقاتها الخاصة مع البيت الابيض، وهذا ما يمكن ملاحظته بمراقبة تلك الصداقة المميزة التي تجمع بين ارييل شارون وجورج بوش.
اذا هناك مصلحة اميركية بإبعاد منطقة «الشرق الأوسط» عن الامم المتحدة ورقابة الدول الكبرى وهي تلتقي مع مصلحة اسرائيلية بمنع ارسال قوات دولية إلى الأراضي المحتلة حتى لا يفرض الانسحاب على تل ابيب من أراض وعدت بالانسحاب منها قبل أكثر من عشر سنوات.
ردّت «اسرائيل» بسرعة على دعوة الأمين العام عنان بارسال قوات دولية. وهذا الرد المنفعل له ما يبرره. فالدعوة تعني فرض رقابة على الاحتلال وضمان أمن الشعب الفلسطيني وحمايته من العمليات العدوانية المتكررة اذا استطاعت... واذا لم تنجح في ذلك فانها على الأقل تعيّن في محاضر سجلات الرقابة الدولية الطرف المسئول عن اختراق الأمن وافتعال الأزمات لتبرير عدم الانسحاب بذريعة الخوف من «الارهاب».
الردّ الاسرائيلي هذه المرة كان أسرع من المتوقع. عادة كانت تل ابيب تتشاور مع واشنطن لتنسيق الرفض بينما جاء الرفض في المرة الاخيرة من طرف واحد في وقت وصل أمس فريق عمل اميركي يتألف من عشرة خبراء في مجال الأمن لمراقبة ما يسمى بوقف اطلاق النار بين الطرفين. فالردّ جاء لتأكيد سياسة اميركية وهي منع تدويل الأزمة وبالتالي ابقاء الحل تحت رقابة اميركية منفردة لا يشاركها اي طرف دولي آخر. وحتى تتم تغطية الامر لجأ شارون إلى الاحتيال مجددا بطرح فكرة هدنة لمدة ثلاثة ايام للاشارة إلى ان تل ابيب باتت في وضع المستعد للقبول بتسوية مع الجانب الفلسطيني شرط ان تعقد في ظل «وقف إطلاق النار». وهذه خدعة يراد منها صرف الانتباه عن نقطتين مهمتين: الاولى احتمال قبول الأمم المتحدة بفكرة القوات الدولية. والثانية تأمين حال من الاستقرار الأمني للوفد الاميركي الذي يفترض انه يريد تقصي الحقائق واعلام ادارة البيت الابيض في صورة دقيقة عن الوضع.
المشكلة ان خدعة شارون انطلت على بعض فصائل المعارضة الفلسطينية التي انبرت إلى رفض «فكرة الهدنة» ظنا منها ان «اسرائيل» باتت في موقع الضعيف عسكريا بينما الواقع ان حكومة تل ابيب تعاني من ضعف سياسي بسبب فشل زعيم الليكود في تنفيذ وعده بسحق الانتفاضة في مدة مئة يوم.
قراءة قادة «حماس» للعرض الاسرائيلي من زاوية عسكرية كانت خاطئة لان هدف شارون من هدنة 72 ساعة هو تمرير رسالة سياسية للولايات المتحدة والأمم المتحدة والقول بان مسئولية الاضطراب الأمني يتحملها الجانب الفلسطيني... والدليل رفض حماس وقف اطلاق النار لمدة محدودة.
شارون رفض اقتراح عنان بارسال قوات مراقبة دولية، وحماس انطلت عليها خدعة شارون ومطالبته بهدنة ثلاثة ايام... والنتيجة استمرار انفراد الولايات المتحدة في السيطرة على ادارة أزمة «الشرق الاوسط» وترك «اسرائيل» حرة في سياستها العدوانية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 282 - السبت 14 يونيو 2003م الموافق 13 ربيع الثاني 1424هـ