العدد 281 - الجمعة 13 يونيو 2003م الموافق 12 ربيع الثاني 1424هـ

من الممنوع... إلى الممنوع

هاني الفردان hani.alfardan [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لعل من أبرز الظواهر في عالمنا الثالث ـ إلى جانب ما ابتلى به من ظواهر ـ ظاهرة «الممنوع» التي تحاصر مواطن هذا العالم في كل وقت وكل مكان، وحتى لو أراد الهروب لوجد في وجهه لافتة تقول له في سخرية «ممنوع الهروب»!

ليس غريبا أن تُمنع من الانتقاد وحتى وإن كان من أجل مصلحة البلاد... ليس غريبا أن تعاقَب عندما تصرخ بأعلى صوتك لا للممنوعات ولا لمصادرة الحريات... لا لإجباري على قبول قناعات غيري ورفض قناعتي... (فأنا أملك فكرا والفكر عندي يتحرك)، فأين الحرية إذا أُمنع من الحديث عن هذا الخطأ أو عن ذاك أو أن أٌرغم في وصف السيئ بالحسَن والحسَن بالسيئ فقط من اجل إرضاء السلطات أو من أجل ردع الأذى عن النفس، وتأتي هذه ضمن آخر اللاءات والممنوعات التي سمعناها أخيرا.

غابة من «الممنوع» تلف البشر في دول العالم الثالث، وتحيط به إحاطة السوار بالمعصم... عفوا أقصد إحاطة «الكلبشات» بالمعصم نفسه...! الإنسان في العالم الثالث يعيش حياته وكل ما حوله يقول له صراحة همسا... ممنوع... ممنوع... ممنوع، أهون هذه الممنوعات وأخفها وطأة هي الممنوعات المعلنة التي تحملها لافتات واضحة في الشوارع والأماكن العامة.

ممنوع الانتظار ممنوع الوقوف ممنوع قطف الإزهار ممنوع الجلوس على الخضرة... الخ... الخ... الخ.

أما أشدها وأخطرها فهي تلك الممنوعات التي تهمس بها الشفاه أو التي تنطق بها العين الحمراء، تلك الممنوعات التي تحيط إنسان هذا العالم بقضبان صلبة لا تراها العيون، ولا يحس بقسوتها وبرودتها إلا ذلك الشاطر الذي يحاول ـ غباء أو انتحارا ـ اختراقها أو تحديها...! ممنوعات النوع الأخير كالأشباح، لا تراها ولكنك تحس بها تحوم حولك، وتحلق فوق رأسك أينما ذهبت، شعور قوي يجعلك تحس بالشرر المتطاير من عيونها وبأصابعها التي ترتفع في وجهك محذرة منذرة حتى تكاد تخترق عينيك كلما حاولت التغافل عن وجودها أو «الاستعباط» وادعاء الشطارة غير المحسوبة التي دفع الكثيرون حياتهم أو حريتهم أو انقطع عيشهم ثمنا لاستخدامها من دون حسابات دقيقة! في عملك ما تكاد تدخل مكتب رئيسك أو مديرك وفي ذهنك مجموعة من الملاحظات والمطالب الخاصة حتى تستقبلك بمجرد أن تضع قدمك داخل مكتبه الضخم مجموعة من أشباح الممنوع تراها ولا تكاد تراها، تسمع صوتها بأذن حاستك التاسعة «حاسة الممنوعات» تهمس بصوت لا يسمعه إلا أنت! ـ لا تناقش.

ـ لا تعارض.

ـ لا تطل الحديث.

ـ لا تطلب زيادة أو علاوة.

ـ لا تحاول أن تبدو ذكيا.

وهكذا... ما تكاد الأشباح تكمل حصارها حول رأسك حتى يتبخر منها كل ما رتبته من كلام... وكل ما أعددته من حوار... وكل ما عزمت عليه من مطالب، ومن ثم لا يبقى في مخك وعلى لسانك سوى مجموعة من الفأفآت والأثأثات، مصحوبة بكلمات من نوع: ـ نعم حاضر... أوامر سعادتك... شكرا... السلام عليكم...! إذا كان لك طلب أو معاملة في موقع حكومي فستجد في انتظارك على باب ذلك الموقع شبحا من أشباح الممنوع يلازمك خطوة بخطوة، مهمته أن يطلعك أولا بأول على قائمة الممنوع في هذه الدائرة، وهي لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في باقي الدوائر، وكلها ممنوعات خاصة بأسلوب التعامل مع أي موظف تحتك به خلال «دوختك» في متاهات المكاتب جريا وراء معاملتك.

ـ ممنوع التكشير في وجه الموظف.

ـ ممنوع رفع الصوت أمام الموظف.

ـ ممنوع استعجال الموظف.

ـ ممنوع الإلحاح على الموظف.

ـ ممنوع الاحتجاج أو الاعتراض على الموظف.

وببساطة، فإنك وبفضل هذه الممنوعات لا تجد أمامك سوى أحد أمرين، إما الرضوخ والاستسلام لها، وإما الاتجاه إلى باب الخروج ممزقا معاملتك، مستعوضا الله في حقوقك...! إذا كنت كاتبا أو مفكرا، فيجب أن تعود نفسك مادمت مصرا على الاستمرار في فكرك وكتاباتك على استقبال الكثير من أشباح «الممنوع» تطرق بابك أو نافذتك أحيانا... وتقتحمها أحيانا أخرى وفي كل زيارة ستجدها تهمس لك بكل جديد ومفيد من «الممنوع»، فحتى «الممنوع» قابل للتغيير والتطور، ممنوع الأمس قد يصبح مسموح اليوم، ومسموح الأمس قد يكون ممنوع الغد، وعليك مادمت مصرا «برضه» على الاستمرار في مغامرات الفكر والكتابة أن تلاحق بانتباه تام حركة الصعود والهبوط في بورصة الممنوع الفكري، و إلا فإن هفوة صغيرة... أو حسابات غير دقيقة، قد تضطرك ـ وبسبب خارج طبعا عن إرادتك ـ إلى عدم التمسك بالاستمرار في الفكر والكتابة...! وأخيرا... إذا كنت متزوجا فيجب أن تروض نفسك ـ شئت أم أبيت ـ على اعتبار «الممنوع» ضيفا دائما ومقيما في بيتك، يعيش آمنا مطمئنا في حماية زوجتك، يأمرك ـ بتوجيهاتها ـ متى شاء، ويخرج لك لسانه ـ بتعليمات منها ـ متى أراد، ففي بيتك تتلاقى كل الممنوعات المشار إليها سابقا، ممنوعات الطريق وممنوعات العمل، وممنوعات الدوائر الحكومية، وممنوعات الفكر والرأي، وما البيت إلا دولة صغرى تنتمي إلى دولة أكبر من دول العالم الثالث، تتمثل فيه كل سلبيات... وسلبيات «عفوا... لا توجد ايجابيات» هذه الدول، كل قوانين القهر... وكل أشباح الممنوع، ودورك في دولتك المنزلية يختلف عن دورك مواطنا ممنوعا في دولتك الطبيعية

إقرأ أيضا لـ "هاني الفردان"

العدد 281 - الجمعة 13 يونيو 2003م الموافق 12 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً